Friday - 29 Mar 2024 | 21:46:06 الرئيسية  |  من نحن  |  خريطة الموقع  |  RSS   
رأي

ليبيا ...هل تؤدي الحرب إلى الحل السياسي... أم يلغي الحل السياسي الحرب

  [ اقرأ المزيد ... ]

تحليل سياسي

روسيا في أوكرانيا،هل يُرسم نظامٌ عالمي جديد

  [ اقرأ المزيد ... ]

بحث
 الدفـ.ــاع الروسية تتحـ.ـدث للمـ.ـرة الاولى عن حرف z على الياتها   ::::   الخارجية الروسية: الأمم المتحدة لا تستطيع ضمان وصول وفدنا إلى جنيف   ::::   السفير الروسي: في الأيام الصعبة نرى «من معنا ومن ضدّنا»   ::::   ما وراء العملية العسكرية الروسية الخاطفة.. و"النظيفة"!   ::::   التايمز: إرهابي يتجول في شوارع لندن بقرار أمريكي   ::::   إعلاميات سوريات في زيارة لأيران   ::::   السلطان المأفون وطائرات الدرون    ::::   الرئيس مادورو: سورية التي انتصرت على الإرهاب تستحق السلام   ::::   بيدرسون: حل الأزمة في سورية يبدأ باحترام سيادتها ووحدتها   ::::   زاخاروفا: «جبهة النصرة» التهديد الأكبر للاستقرار في سورية   ::::   نيبينزيا: لا يمكن السكوت عن استفزازات (جبهة النصرة) في إدلب   ::::   مباحثات روسية إيرانية حول آفاق حل الأزمة في سورية   ::::   مباحثات سورية عراقية لإعادة مهجري البلدين   ::::   أبناء الجولان المحتل يرفضون إجراءات الاحتلال باستبدال ملكية أراضيهم.. لن نقبل إلا بالسجلات العقارية السورية   ::::   قوات الاحتلال الأمريكية ومجموعاتها الإرهابية تواصل احتجاز آلاف السوريين بظروف مأساوية في مخيم الركبان   ::::   الجيش يدك أوكاراً ويدمر تحصينات لمجموعات إرهابية اعتدت على المناطق الآمنة بريف حماة   ::::   إصابة مدنيين اثنين وأضرار مادية جراء اعتداء الإرهابيين بالقذائف على قرى وبلدات في سهل الغاب   ::::   سورية تدين قرار الحكومة البريطانية: حزب الله حركة مقاومة وطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي شرعيتها مكفولة بموجب القانون الدولي   ::::   لافروف: نقف مع فنزويلا في وجه التدخلات بشؤونها الداخلية   :::: 
الأزمة البنيوية في الأنظمة السياسية العربية المعاصرة
نَّ حصيلة التجارب النظرية والعملية الإصلاحية في العالم العربي، تشير إلى أنَّ أغلب الإشكاليات الكبرى التي تناولها فكر النهضة، وبالأخص ما يتعلق منها بالنظام السياسي الأمثل، قد ظلت دون حلول جذرية. بل يمكن توكيد الفكرة القائلة، بأنَّ العالم العربي لم يفلح حتى الآن في تأسيس نظم سياسية قادرة على مواجهة التحديات التاريخية الكبرى للعالم المعاصر. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الافتراض بأنَّ العالم العربي مازال في طور البحث عن "النظام السياسي العقلاني"، وتأسيس نماذج بديلة لما هو قائم. وهي فرضية يمكن الانطلاق في البرهنة عليها من حقيقتين، الأولى وتقوم في أنَّ العالم العربي لم يستطع تذليل الهوة بينه وبين العالم الصناعي المتطور، بل على العكس إنَّ الفجوة في ازدياد مستمر، مما يعني أنّه لم يزل في "عالم ثالث" أو أدنى منه. والثانية في وجود أزمة بنيوية شاملة في بنية الأنظمة السياسية العربية على كافة الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، وكذلك في طبيعة العلاقة القائمة بينها وبين العالم الخارجي. وهما حقيقتان تشكلان صلب الجدل الدائر والمستقبلي حول شرعية الأنظمة السياسية العربي، لاسيما وأنّها شرعية لم تعد في ظروف العالم المعاصر ومنظومة العلاقات الدولية الجديدة جزءاً من "الحقوق القومية" و"السيادة الوطنية" و"القانون الدولي" بشكل عام، وميثاق الأمم المتحدة بشكل خاص. على العكس إنّها أخذت تتحول إلى جزء متنام من العلاقات الدولية الجديدة، أو على الأقل إحدى عناصره التي يحتمل – مع مرور الزمن - أن تصبح جزءاً من القانون الدولي. وهو الأمر الذي يجعل من قضية الشرعية الداخلية للنظام السياسي جزءاً مكملاً، إن لم يكن عضوياً على المدى القريب من الشرعية الدولية. من هنا الأهمية العلمية والعملية لدراسة الأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة. لاسيما وأنّها المقدمة الضرورية لإدراك الإشكاليات المتعلقة بقضايا الإصلاح السياسي، والمشاريع المتعلقة به المحلية منها والعالمية. بمعنى تناول الجوانب المتعلقة بمدى استجابة المشاريع العربية لقضايا تذليل وحل الأزمة البنيوية، ومن ثم تطوير إمكانيات الدولة العربية الحديثة بالشكل الذي يستجيب لحجم التحديات الفعلية على الصعيد القومي والعالمي. والشئ نفسه يمكن قوله عن المشاريع المقدمة من قبل مختلف القوى العالمية للإصلاح السياسي في العالم العربي. وهي قضايا لم تعد نظرية بحتة، بقدر ما أصبحت تلامس الأبعاد الوجودية للدولة نفسها. فالأزمة البنيوية الشاملة للدولة العربية الحديثة لم تعد خفية على العيان، كما أنَّ تفاقمها أصبح يهدد كلَّ جوانب الأمن الحيوية للدولة والمجتمع والقومية. لذلك فإنَّ رؤية جذورها الفعلية تشكل المقدمة الضرورية بالنسبة لاستشراف آفاق البدائل بهذا الصدد. ومن ثم تجاوزها بالشكل الذي يوفق بين تطوير البنية الذاتية للدولة في مختلف الميادين والمستويات من جهة، واندماجها الواقعي والعقلاني بمنظومة العلاقات والمصالح الدولية من جهة أخرى. أولاً: مفهوم الأزمة وجذورها. إنَّ إحدى الإشكاليات النظرية المعقدة للأزمة وطابعها المفارق يقوم في أنّها حالة واقعية، وكثيرة التردد في الفكر السياسي والإعلام، إلا أنّها الأكثر تعقيداً بالنسبة للتحديد العلمي الدقيق. بمعنى أنّنا نقف أمام حالة الوصف المتنوع والمتعدد لمظاهرها، بينما تندر الصياغة الدقيقة لمضمونها بشكل عام والسياسي بشكل خاص. لاسيّما وأنَّ لهذا التحديد قيمة علمية وعملية مهمة بالنسبة للبرامج والرؤى المتعلقة بالبدائل بشكل عام، والإصلاحية منها بشكل خاص. ومع ذلك هناك الكثير من المحاولات التي تسعى لتقديم تعريف أو تشخيص معين لماهية الأزمة. وهي محاولات تختلف تبعاً للقناعات الشخصية للباحثين، أو لمنهجيات البحث المتبعة، أو للتوظيف الجزئي الخاص بالنتائج المترتبة على هذا النوع من التحديد والتوصيف والتشخيص. ورغم تعدد التعاريف التي تناولت ماهية الأزمة، إلا أنّها تشترك في الفكرة العامة القائلة، بأنَّ الأزمة تنشأ من رفض أطراف الصراع الواقع القائم، ورغبة كل طرف في تغييره لصالحه. فعلى سبيل المثال دَرَجَ المتخصصون في إدارة الأزمات على تعريفها بأنّها "لحظة حرجة وحاسمة، وقد تكون مفاجئة تواجه صانع القرار، ويتوقف على كيفية التعامل معها سلامة الكيان الذي أصابته الأزمة". في حين عرّف اوران يونغ الأزمة في كتابه (الوسطاء) بأنّها "أحداث سريعة تؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار في النظام القائم إلى درجة غير عادية تزيد من احتمال استخدام العنف"، ويذهب كورال بيل في تعريفها في كتابه (اتفاقيات الأزمة) بأنّها "ارتفاع الصراعات إلى مستوى يهدد بتغيير طبيعة العلاقات بين الدول. بينما يرى ريتشارد نيكسون أنَّ التعريف الأفضل للأزمة هو في الطريقة التي يكتب بها الصينيون هذه الكلمة، فهم يعبرون عنها بطريقتين، الأولى: تدل على الخطر، والثانية على الفرصة. الخطر يعني احتمال تصاعد الأزمة إلى مستوى المواجهة باستخدام القوة، أما الثانية فتعني سرعة اتخاذ القرار لتطويق اتجاهات الأحداث بما يخدم أغرض الدولة. أما مايل بريتشر فيعرفها بأنّها "مجموعة التفاعلات المتعاقبة بين دولتين أو أكثر تعيش حالة صراع يصل أحياناً إلى احتمال عالي لنشوب الحرب ووقوعها، وفيها يواجه صاحب القرار موقفاً يهدد المصالح العليا للوطن، ويتطلب وقتاً قصيراً للتعامل مع هذا الموقف باتخاذ قرارات جوهرية". يتضح مما سبق، بأنَّ الاهتمام الرئيس للتعريفات الأنفة الذكر تصب في اتجاه تحديد ماهية الأزمة في العلاقات الدولية. بمعنى أنّها تشير إلى الحالة المميزة لاحتدام الصراع والمواجهة التي تنذر بعواقب تمس العلاقة بين الدول. وهي تعريفات أقرب ما تكون إلى تقرير واقع الأحداث ومجرياتها، أي أنّها لا تمس مضمون الأزمة المرافقة لبنية الدولة. فالدولة هي جهاز أكثر تعقيداً من نوعية العلاقات بين الدول، وذلك بفعل طابعها المركب. فهي الكيان الحاوي لكل مكونات النظام والمجتمع والثقافة، بمعنى أنّها الكيان الذي يحوي في ذاته الماضي والحاضر والمستقبل في كافة المستويات والميادين. من هنا الطابع المركب والأكثر تعقيداً لحالة الأزمة فيها. بعبارةٍ أخرى، إنَّ ماهية الأزمة في الدولة، وبالأخص الأزمة البنيوية منها، ترتبط بتوتر التناقضات القائمة فيها بسبب خلل آلية العمل الضرورية في مكوناتها الجوهرية. ذلك يعني أنَّ أزمة الدولة هي أولاً وقبل كل شئ، أزمة فاعليتها الذاتية في تطوير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بوصفه وحدة حية. وعندما نطبق ذلك على الدول العربية الحديثة، فإنّنا نقف أمام استنتاج عام توصل إليه أغلب الباحثين والمفكرين العرب، وهو أنَّ الأزمة التي تعانيها الأنظمة العربية ليست حديثة العهد، إلا أنّهم اختلفوا في تحديد زمنها. فبينما يربطها البعض بظروف ومعطيات نشأة الدولة العربية الحديثة كما هي، ومن ثم بطبيعة النخب السياسية الحاكمة بعد الاستقلال، يرجعها البعض الأخر إلى ما قبل ذلك. إلا أنَّ هذا الخلاف المتعلق بتحديد زمن الأزمة أو بدايتها لا ينفي الإجماع النسبي عند أغلب الباحثين بهذا الصدد على صياغة بعض المفاهيم التي تصور طبيعة الدولة العربية الحديثة ونوعيتها. ومن خلال هذه المفاهيم جرت محاولات كشف طبيعة أزمتها السياسية. ولعل أكثرها انتشاراَ هي مفاهيم الدولة التسلطية، والدولة التابعة أو الاستتباعية، والدولة الريعية، والدولة الرخوية، ودولة ما بعد الاستعمار، والدولة الأبوية، والدولة البيروقراطية، وغير ذلك. وبغض النظر عن مستوى القيمة النظرية في المفاهيم السابقة، إلا أنّها تشكل من الناحية العلمية والمعرفية محاولات لتحليل مختلف الجوانب المرتبطة بطبيعية وخصائص الدولة العربية الحديثة. وفيها يمكننا العثور على تاريخ الأزمة الفعلية في الدولة العربية الحديثة. وقد لا تعكس هذه المفاهيم كافة الجوانب الفعلية في الأزمة البنيوية الشاملة لدولة العربية الحديثة، إلا أنّها تعبر عن محاولات رصدها وتوصيفها. ومن ثم يمكن العثور على تتبع تاريخ الأزمة فيها. وهو الأمر الذي نعثر عليه في تناول العديد من الدراسات المتخصصة بهذا الصدد. حيث نعثر فيها على تشخيص عام لتاريخ الدولة العربية الحديثة، كما نراه على سبيل المثال في تقسيمه إلى ثلاث مراحل كبرى. عادةً ما يجري النظر إلى المرحلة الأولى على أنّها مرحلة التكون والنشوء، ومن ثم بداية أزماتها. أما الثانية والثالثة فهي مجرد استكمال واستفحال تفاقمها اللاحق. المرحلة الأولى: ركز الباحثون خلال هذه المرحلة على دراسة ظروف نشأة الدولة العربية، وتحديد أبرز العوامل التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في عملية تشكلها. وأنقسم المفكرون والباحثون في تفسيرهم لنشأتها إلى تيارين أساسيين. يذهب أصحاب التيار الأول في تفسير نشأة الدولة، بوصفها كياناً سياسياً، إلى الاستعمار، باعتباره القوة التي رسمت حدودها وصنعت مؤسساتها بعد تجزئتها بالشكل الذي يخدم مصالحها وأهدافها، دون الاهتمام أو الأخذ بنظر الاعتبار حقائق الجغرافيا والتاريخ. وبغض النظر عن التناقضات القائمة في أساس هذه النشأة، إلا أنّه جرى التعود عليها والتعايش معها بحيث لم يعد شكل الدولة الحالي فعلاً خارجياً أو كياناً مستورداً وأجنبياً. وهو الأمر الذي أعطى لهؤلاء الباحثين المبرر لاعتبارها ثمرة هجينة تمثل في شكلها أو مظهرها الخارجي سيادة الثقافة السياسية الأوروبية الحديثة، أما مضمونها أو محتواها فإنّه مازال مطبوعاً بصبغة محلية. وهو ما يعني أنّ السبب الأساسي للأزمة العربية عند أصحاب هذا الاتجاه يعود إلى التناقض بين شكل الدولة العربية (الذي هو من صنع الاستعمار)، وبين محتواها ومضمونها المحلي. أما التيار الثاني فيذهب إلى النقيض مما طرحه التيار الأول. فهو يرى أنَّ أغلب الدول العربية الموجودة حالياً لها جذورها وامتداداتها السابقة على مرحلة ما قبل الاستعمار الأوروبي في المنطقة. إذ يعتقد على سبيل المثال، إيليا حريق بأنَّ إلقاء "نظرة سريعة إلى تاريخ الدول العربية القائمة حالياً يدل بوضوح على أنّها دول قديمة إضافة إلى كونها مجتمعات قديمة. وكانت هذه الدول في مراحلها الأولى تقليدية دون شك، إنّما هذا لا يعني أن ننكر عليها كيانها السياسي". بل نراه يشدد على أنَّ "خمسة عشرة من الدول العربية الحالية قد ظهرت تدريجياً كحصيلة لعوامل داخلية أصيلة لا علاقة لها بالاستعمار، ومعظمها سابق لظاهرة الاستعمار الأوروبي في منطقتنا. معظم تلك الدول كانت ذات أصل محلي، وتتمتع بشرعية مسلّم بها في المجتمع القائمة فيه. كما كان لكل من تلك الدول حدود جغرافية، أو على الأقل نواة جغرافية تشكل قاعدة حكمها" مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب. ولا ينفي في المقابل أنصار هذا الاتجاه على أنَّ هناك دول عربية أخرى نشأت نتيجة للخطط والسياسات الاستعمارية. ومن ثم لا ترتبط أسباب نشأتها بمعطيات تاريخية محلية، كما هو الحال بالنسبة لسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن. إنّنا نعثر في أراء وأحكام أصحاب هذين التيارين على تصوير يتسم بالموضوعية. إلا أنَّ نقصهما الأساسي يقوم في محاولاتهما وضع صيغة "مناقضة" للأخرى تماماً، مع أنًّ التاريخ السياسي لنشأة الدول العربية المعاصرة، هو في أغلبه نتاج تداخل وتفاعل وتأثير القوى الأجنبية والعربية. بمعنى أنّنا نستطيع العثور عند كلٍ من هذين الاتجاهين، بما في ذلك في الحجج والبراهين والأدلة، على قدر من الحقيقة التاريخية المرتبطة بظروف نشأة الدولة المعاصرة في العالم العربي. بل يمكننا القول بأنَّ كل من هاتين النظريتين المتعلقتين بتفسير نشأة الدولة العربية الحديثة تكمل إحداها الأخرى. وهي فكرة سجلها البعض في الاستنتاج القائل، بأنّه رغم التباين في ظروف نشأة الدولة العربية الحديثة من بلد إلى آخر، إلا أنَّ اغلب أجهزتها ومؤسساتها، على الأقل من الناحية الشكلية، مرتبطة بخبرة الاحتكاك بالاستعمار والخضوع له. لقد حددت هذه العوامل المتعلقة بنشأة الدولة العربية الحديثة خصوصية مشاكلها الذاتية. وذلك لأنَّ إقامة الدولة العربية الحديثة، ورسم حدودها الجغرافية كانت في الأغلب نتاجاً للسياسة الاستعمارية للغرب الكولونيالي. وبالتالي لم تتسق مع معطيات التاريخ والجغرافيا والثقافة والاجتماع. وفي هذا تكمن الكثير من الأسباب والمقدمات التي جعلت منها بناءً يحتوي في ذاته، رغم ظهورها المستقل، على العديد من المشكلات الداخلية والإقليمية. ومن بين أهم هذه المشكلات مشكلة الاندماج الوطني والإقليمي والاجتماعي داخل الدولة الواحدة، إضافةً إلى مشكلات نقص الموارد الطبيعية والبشرية، وأخيراً المشكلات المفتعلة "للحدود" العربية – العربية، والعربية – غير العربية. المرحلة الثانية: ركز فيها الباحثون على تطور الأزمة البنيوية خلال عملية بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الاستقلال. سواء المؤسسات السيادية منها كالجيش والأمن والتمثيل الدبلوماسي، أو الخدمية كالتعليم والصحة والإسكان والإدارات المحلية، أو الإنتاجية كشركات القطاع العام والمشاريع الاقتصادية الكبرى المملوكة للدولة. المرحلة الثالثة: ركزت الدراسات في هذه المرحلة على تقويم ممارسات وإنجازات الدولة في مرحلة ما بعد استقلالها، من خلال تحليل مصدر وأبعاد الأزمة التي تعانيها في الوقت الراهن. وتوصلت إلى أنَّ الأزمة البنيوية التي تعانيها الدولة العربية الحديثة، هي النتيجة الطبيعية لتفاقم المشكلات التي ورثتها عن مرحلة ما قبل الاستقلال من جهة، وتزايد حدة المشكلات التي نجمت عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حدثت في مرحلة ما بعد استقلالها من جهة أخرى. ولا يغير من حقيقة هذا الاستنتاج تفاوت حدة الأزمات وخطورتها من دولة لأخرى. مما سبق يتضح بأنَّ الآراء المختلفة بصدد طبيعة وتاريخ الأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة، تشترك في الإشارة والاتفاق على تقرير العجز الفعلي للدولة العربية الحديثة عن صياغة وتنفيذ سياسة واقعية وعقلانية وفعالة لتذليل أزماتها. وهي أزمات ازدادت حدتها وتأثيرها المتنوع على خلفية الضعف الهيكلي للدولة ومؤسساتها، وتعدد مصادر الخلافات والصراعات العربية – العربية، وزيادة الضغوط والتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول العربية. إنَّ الطابع المركب للأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة يقوم أيضاً في استمرار مصادر الأزمة وتعميقها وتوسيع مداها. وبغض النظر عن الاختلافات الفكرية والسياسية والمنهجية بين الباحثين بهذا الصدد، إلا أنَّ هناك إجماعاً آخذاً في النمو حول تحديد ما يمكن دعوته بالمصادر الرئيسة والفرعية. وهي مصادر مازالت مثيرة للجدل، إلا أنّها تجتمع على أهمية بعضها مثل مشكلة الهوية، وأزمة التكامل السياسي والاجتماعي، والأزمة الاقتصادية، وأزمة الشرعية، إضافةَ إلى مختلف مصادر توسيع وتعميق الأزمات المشار إليها أعلاه بسبب العوامل الإقليمية والدولية. ثانياً: مظاهر الأزمة البنيوية في الدولة العربية المعاصرة. إن الأزمة التي تعانيها الدولة العربية المعاصرة أزمة مركبة، أي معقدة ومتنوعة المستويات. بحيث اتخذت فيها صيغة الأزمة المنظومية. وهو الأمر الذي يجعل من دراسة مظاهر الأزمة البنيوية في الدولة العربية المعاصرة قضية غاية في الأهمية من الناحيتين النظرية والعملية، من أجل تأسيس بديل واقعي وعقلاني لأزمتها الحالية، ومن ثم إمكانية اشتراكها الفعال في التكامل العربي من جهة، وفي تحديات الصراع العالمي المعاصر من جهة أخرى. إنَّ التقديم النظري للمباحث التاريخية والسياسية المتعلقة بنشأة الدولة وخصوصية المكامن القائمة فيها، والتي تبين ما يمكن دعوته بتشريح الأزمة الباطنية للدولة العربية الحديثة، تبقى إطاراً ظاهرياً وخارجياً، ما لم نستكمله بمبحث متخصص عن مظاهر الأزمة. إذ فيها تبرز نوعية ومستوى الأزمة، ومن ثم انعكاسها المباشر وغير المباشر في السياسة الداخلية والخارجية للدولة وعلى كافة الأصعدة. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار طابعها المعقد، شأن كل ظاهرة كبرى من حيث تداخل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتاريخ، حيث يصعب احتواء كل مظاهرها. وسوف نركز في هذا المطلب على الجوانب المؤثرة على تفعيل وظيفة الدولة الداخلية والخارجية، وبالأخص ما يتعلق منه بأثرها بالنسبة لفكرة الإصلاح والعلاقات الدولية. ومن بين أهم هذه المظاهر المؤثرة بصورة مباشرة وغير مباشرة على نوعية نشاط الدولة، ومستوى إدارتها للازمة الداخلية، وعلاقتها بالعالم الخارجي، تجدر الإشارة إلى كلٍّ من قضايا الشرعية والبناء المؤسسي، والعلاقة المتبادلة مع المجتمع، ونمط الإدارة العامة والخاصة لمختلف جوانب الحياة الهامة في المجتمع، وأخيراً طبيعة علاقتها بالعالم الخارجي ومستوى اندماجها فيه، ونوعية تمثيلها للمصالح الوطنية والقومية. وعموماً يمكننا الحديث عن سبعة مظاهر كبرى لأزمة الدولة العربية الحديثة. أولاً: ضعف مصادر الشرعية وإشكالاتها السياسية. تعدُّ أزمة الشرعية من أهم وأعمق وأخطر الأزمات التي تعاني منها الدولة العربية المعاصرة. والسبب يعود في ذلك إلى أنّها لم تصب النظام القائم فحسب، بل وتعدته إلى فكرة الدولة ذاتها. مما جعل من إشكالية الشرعية إشكالية سياسية مركبة، وذلك لما للدولة من أهمية جوهرية بالنسبة لتثبيت قيم الشرعية من جهة، وتفعيلها في الوعي الاجتماعي والقانون من جهة ثانية، ومن ثم قدرتها على جعل نفسها بؤرة الولاء الأكبر للفرد والمجتمع من جهة ثالثة. وليس اعتباطاً أن تنمو وتتراكم مختلف نماذج الولاء الجزئي والتقليدي، بمعنى تنامي نفسية وذهنية الولاء الفردي والاجتماعي لكيانات ما قبل الدولة، مثل الانتماء الجهوي والطائفي والقبلي والديني. فهي مظاهر تشير من الناحية العامة إلى وجود خلل في شرعية الدولة العربية الحديثة، وإشكالية سياسية فيها أيضاً. وهو واقع جعل البعض يتكلم عن أنَّ هذه الأزمة تشمل كلاً من النظام السياسي والدولة في آنٍ واحدٍ. وهي أزمة تجد تعبيرها في نمو مختلف مظاهر الاحتجاج تجاهها من السلمي إلى العنيف. ولعل من أهم مظاهر إدراك هذا الضعف، هو اشتراك مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية على تقرير واقعها، بمعنى اتفاق مختلف الباحثين على وجودها. أما تفسيرها الخاص فإنّه أمر مختلف ومتنوع، وهو أمر طبيعي. وفي هذا الإطار يمكننا الحديث عن اتجاهين عامين في الموقف من تفسير هذا المظهر العام للأزمة. الاتجاه الأول، الذي يرى أنَّ ضعف الشرعية مرتبط أساساً بظروف نشأة الدولة العربية المعاصرة ذاتها. في حين يذهب الاتجاه الثاني إلى أنَّ السبب الرئيسي يعود إلى عجز الدولة العربية المعاصرة عن أن تكون وعاء لسياسة تعكس المصالح الوطنية العامة. وكذلك عجزها عن إشاعة مفهوم الدولة الديمقراطية والقانونية، كإطار لتنمية مفهوم المواطنة، وتجاوز مختلف أصناف الولاء الجزئي والتقليدي إلى مصاف الولاء للدولة والقانون. والسبب يعود بذلك إلى إخفاقها في تحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروة والسلطة. بل توصلت إحدى الدراسات التي بحثت في أزمة الشرعية العربية، إلى أنَّ ما تشترك فيه الدول العربية، ولو بدرجات مختلفة، هو تشرذم أساسها الاجتماعي واغترابها. الأمر الذي يدل عليه مؤشران اثنان، الأول، وهو وجود عجز في الشرعية السياسية، والثاني، الأساس الأبوي للسلطة السياسية. من هنا استنتاجها القائل، بأنَّ أزمة الدولة العربية الحديثة تتعدى نظامها السياسي إلى نمط علاقاتها الاجتماعية القائمة على ثقافة سياسية أبوية. وفيما لو طبقنا بشكل عام ومكثف مضمون التحليل الفعلي لطبيعة الأزمة البنيوية للدولة العربية الحديثة، وانعكاس مظاهر ضعف أو غياب الشرعية فيها على مختلف الدول العربية وأنظمتها السياسية، فإنّنا نستطيع رؤية تأثيرها المخرب، وآثارها المدمرة على مختلف جوانب الحياة. وقد يكون أكثرها تدميراً هو تعريض الدولة نفسها إلى الانحطاط والسقوط والتلاشي. وقد يكون المصير الذي آلت إليه في نماذج الحرب الأهلية كما جرى في لبنان والسودان، أو سقوط الدولة كما جرى في العراق، أو تلاشيها كما جرى في الصومال هي مجرد أحد أشكالها لا غير. ثانياً: ضعف البناء المؤسسي للدولة. تستمد مظاهر ضعف الشرعية أصولها من الضعف التاريخي الذي لازم ظهور الدولة العربية الحديثة. كما أنّها تمده بطاقة جديدة. بمعنى أنّنا نقف أمام تداخل مركب لأزمة الشرعية والضعف البنيوي لمؤسساتها. إذ لم تستطع الدولة العربية الحديثة استكمال مقوماتها بالمعنى الحديث، سواء فيما يتعلق ببنائها المؤسسي، أو باستقلالها الذاتي عن شخص الحاكم، أيّاً كانت صفته وطريقة وصوله إلى السلطة. وهو الأمر الذي لعب دوراً هاماً في عرقلة استقرار مفهومها كدولة في الوعي الاجتماعي، وثباته في الوعي السياسي، وقانونيته في الوعي الحقوقي. لقد أدى عدم استكمال البناء المؤسسي للدولة العربية الحديثة، إلى ظهور مشاكل وإشكاليات عدة على مختلف الأصعدة وفي مختلف الميادين، يأتي في مقدمتها تحول الدولة إلى وسيلة وأداة لضمان استمرار الأنظمة الحالية دون تغير ولا تبدل. بمعنى انعدام إمكانية التداول الحر والديمقراطي والاجتماعي للسلطة. مما أدى إلى تحجر أنماط تقليدية، مثل الحكم العائلي والقبلي والديني, أو الديمقراطي الشكلي. وليس مصادفة أن يتحول القمع السافر والمبطن، وانعدام أبسط مقومات الحرية السياسية والاجتماعية، إلى الأسلوب الوحيد والفعال في ضمان استمرار واستقرار الأنظمة الحاكمة. وهو ما ذهب إليه محمد جابر الأنصاري حين توصل إلى أنَّ حالة التشوه التي شابت نمو الدولة العربية الحديثة، إنّما تعود إلى عدم معرفتها الفصل أو الحدود بين السلطة والدولة خلال صيرورة تكونها ونموها التاريخي. بل إنّه ذهب إلى أنَّ الدولة العربية لم تقم بدور الحاضنة للسلطة كما يفترض وينبغي، بل إنَّ هذه الأخيرة هي من مارست دور الحاضنة للدولة. وهو ما يعني أنَّ القضاء على هذه الحاضنة يتضمن بداخله تهديد وليدها بالخطر وربما بالموت. ثالثاً: ضعف وهشاشة الدولة. إنَّ الباحث في نموذج الدولة العربية الحديثة، لاسيّما خلال النصف الثاني من القرن العشرين سيجد أنّه ينقسم إلى قسمين: - الأول: وهو الشكل الخارجي لهذا النموذج، أبرز معالمه التضخم الكبير في أجهزة الدولة أفقياً وعمودياً، وكذلك ازدياد عدد العاملين فيها، وضخامة إنفاقها العام، بالإضافة إلى ازدياد وتوسع الدور الذي تمارسه على صعيد الاقتصاد والمجتمع. - الثاني: ويتعلق بالمضمون الداخلي لهذا النموذج، الذي يتصف بالضعف والهشاشة في أدائها العام والخاص تجاه الدولة والمجتمع. ولعل أهم مظاهر هذا الضعف بهذا الصدد، هو عجز الدولة عن إرساء أسس العلاقة الطبيعية مع المجتمع على أرضية الشرعية والقانون. وبالتالي عجزها عن إدارة وتعبئة مواردها بفاعلية. وقد ترتب على ذلك استفحال عجزها عن اتخاذ وتنفيذ السياسات السليمة لمواجهة المشكلات الداخلية والتحديات الخارجية. أما النتيجة فهي ضعف أو عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال الوطني الفعلي والدفاع عنه، ومن ثم الحد من تبعيتها للعالم الخارجي. وإضافةً إلى ذلك فشلها في تحقيق إجماع وطني واجتماعي وسياسي بما في ذلك على القضايا العامة والكبرى. بعبارةٍ أخرى إنَّ المفارقة الكبيرة التي تظهر بين تضخم أجهزة الدولة العربية الحديثة، وتطاول دورها في الاقتصاد والمجتمع من جهة، وضعف أدائها في مختلف ميادين الحياة العامة من جهة أخرى، تعكس حالة الاغتراب الفعلي بين شكل الدولة ومضمونها. وهو اغتراب نعثر عليه في تدني وضعف إنجازاتها، وبالأخص فيما يتعلق بقضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والاستقلال الوطني والوحدة. وهي النتيجة التي نعثر عليها في ضعف شرعيتها أمام مجتمعها المحلي والدولي. رابعاً: ضعف العلاقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع. خلصت العديد من الدراسات الحديثة التي تناولت موضوع العلاقة بين الدولة العربية الحديثة والمجتمع، إلى وجود فجوة كبيرة بينهما. وهي فجوة آخذة في الاتساع والتعمق المستمرين. وتقترب أغلب هذه الدراسات في تفسيرها لسبب هذا الخلل من الحكم القائل بعدم تمثيل الدولة بمختلف أجهزتها وممارساتها وسياساتها لمصالح وأهداف وطموحات مختلف القوى الاجتماعية المكونة لها. فالدولة العربية الحديثة لجأت إلى التعامل مع المجتمع بالشكل الذي يتناسب مع سياساتها وتوجهاتها الإيديولوجية. هذا الأمر يتمثل ويظهر بشكل واضح في عدم السماح في أغلب الأحيان بقيام قوى سياسية وتنظيمات اجتماعية قادرة على منافستها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. من هنا تظهر السياسة المنظمة لتدمير أغلب عناصر المجتمع المدني، أو تغييبها والحد من استقلاليتها الحقيقية عبر التحكم المباشر وغير المباشر بها من جانب أجهزة الدولة ومؤسساتها. وهي سياسية مازالت متحكمة في نفسية وذهنية الدولة العربية الحديثة. بمعنى إصرارها العلني والمبطن على إلغاء أو تحييد أو إضعاف المجتمع المدني وقواه الحية، وبالأخص في كل ما له علاقة بالحياة السياسية بشكل عام، وسياسة الدولة تجاه المجتمع بشكل خاص. ومن أهم مظاهر تنفيذ هذه السياسة، هو محاولة أو محاولات فك الارتباط بين تبني الدولة لليبرالية الاقتصادية، والليبرالية السياسية. بمعنى أنَّ اللامركزية في الاقتصاد لا يعني تطبيقها الآلي في ميدان الحياة السياسية، وبالأخص ما يتعلق منه بإدارة شؤون الدولة، أو إخضاع نشاطها إلى أية رقابة اجتماعية. إنَّ عدم وجود علاقة سليمة وصحيحة تربط الدولة بالمجتمع، أدى إلى غلبة الطابع المركزي للدولة في المجال السياسي، وبالتالي تدني إن لم نقل غياب المشاركة السياسية للمجتمع بهذا الصدد. وهو ما دفع بالعديد من التيارات السياسية والاجتماعية إلى اللجوء إلى الاحتجاج والعنف السياسي كوسيلة للتعبير عن مطالبها. وهي وسائل وأساليب وردود فعل تعكس الوجه الأخر لسياسية الدولة تجاه المجتمع. إذ أنَّ أغلب ممارسات العنف واستعمال السلاح من جانب القوى المناهضة للسلطة، هو الوجه الأخر للممارسة العنيفة والكبت الذي تمارسه الدولة ضد المجتمع وقواه السياسية والمدنية. وهو الأمر الذي انعكس لاحقاً في عجز الدولة على المحافظة على وحدة مجتمعها وتماسكه، كما تجسد بصورة "نموذجية" في العراق والسودان والصومال. خامساً: ضعف الرؤية العقلانية والنقدية. بالرغم من استحواذ الدولة العربية المعاصرة على كامل الحياة السياسية، إضافةً إلى إحكام سيطرتها شبه المطلقة على الحياة الاقتصادية والإعلامية بالشكل الذي يستجيب لتصوراتها وأحكامها وعقائدها (الإيديولوجية)، إلا أنّها مع ذلك لم تستطع تحقيق شعاراتها المعلنة، ولا الآمال والطموحات الشعبية الكبرى، مثل التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والوحدة الوطنية والقومية وحماية الاستقلال الوطني والحفاظ على الأصالة الثقافية. على العكس من ذلك إنّنا نقف أمام انحدار وانحطاط مثير في هذه المجالات. وهي نتيجة أثارت وما تزال تثير الجدل العلمي والعملي حول أسبابها ومقدماتها. حيث يذهب بعض الباحثين في تفسير أسباب هذا الفشل إلى كلٍّ من طبيعة النخب السياسية الحاكمة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وطبيعة النظامين الإقليمي والدولي الذي نشأت الدولة العربية الحديثة وتطورت ضمن تفاعلاتهما، وأخيراً تنامي وازدياد القوى والجماعات والتيارات السياسية والفكرية التي ترتبط مصالحها بالحالة الراهنة للدولة العربية. وبالرغم من كثرة وتنوع عمليات البحث عن علاج لما تعاني منه الدولة العربية الحديثة، وإصلاح أنظمتها السياسية بهدف إعادة تفعيل دورها في المنظومة الإقليمية والدولية، إلا أنّها بقيت ضمن مسارها العام. بمعنى بقاءها خارج الديناميكية الفعالة للتطور العالمي الحديث في مختلف الميادين. وهي حالة تشير إلى نوعية الجمود الفكري المميز للقوى السياسية التي استولت على السلطة وجعلت الدولة جزءاً منها. وهو السبب القائم وراء استفحال الرؤية الإيديولوجية تجاه الدولة، ومن ثم غياب الرؤية العقلانية والنقدية سواء تجاه تجاربها الخاصة، أو العربية العامة أو العالمية. أما محاولاتها النقدية، فإنّها لم تتعد في الأغلب أن تكون مجرد محاولات جزئية وشكلية. بمعنى افتقادها للرؤية النقدية الشاملة بشكل عام والإصلاحية الشاملة بشكل خاص. من هنا طابعها المتقطع والجزئي والعابر، ومن ثم خلوها من أية رؤية إستراتيجية متكاملة وشاملة للإصلاح، وقابلة للتنفيذ وفق مخطط زمني مدروس وآلية توافقها. ذلك يعني أنّها كانت في أفضل حالاتها، جزءاً من سياسة التعايش مع الأزمة البنيوية لا حلها بطريقة شاملة. أي أنّها كانت في أفضل الأحوال مجرد سياسة محكومة بنفسية نفعية عابرة ترمي بالدرجة الأولى إلى تكريس مراكز النخب الحاكمة، وتمكينها من الاستمرار بالسلطة. سادساً: استشراء الفساد السياسي والإداري. على الرغم من أنَّ الفساد السياسي والإداري ظاهرة عالمية، إلا أنَّ خبرة الدول به تختلف تبعاً لحجم وطبيعة هذه الظاهرة. والشئ نفسه يمكن قوله عن الأساليب المتبعة للتعامل معها. إلا أنَّ ما يميز هذه الظاهرة في الدولة العربية الحديثة، هي أنّها أصبحت في حالات عديدة، جزءاً من بنية النظام السياسي نفسه. بعبارةٍ أخرى، إنَّ استشراء الفساد الإداري والسياسي بدأ يتأطر فيما يمكن دعوته بآلية خاصة به، ترتقي إلى مصاف "المؤسسة" القائمة بذاتها. وهو الأمر الذي نعثر عليه في تحولها إلى قوة سياسية واجتماعية وأخلاقية فاعلة تمارس ضغوطها المباشرة وغير المباشرة على الدولة ومؤسساتها والمجتمع وقواه السياسية والإفراد. وهي ضغوط منظمة تشمل كافة ميادين الدولة والمجتمع، وعلى كافة المستويات وبالأخص العليا منها، مثل السياسية والإدارية والاقتصادية. إنَّ تحول الفساد إلى ممارسة شائعة الانتشار، هو مؤشر واضح في دلالاته على طبيعة ومستوى المظاهر العامة لأزمة الدولة ونظامها السياسي. وفي مقدمة هذه المظاهر ضعف أو حتى غياب أجهزة الرقابة والمساءلة والمحاسبة الرسمية والشعبية، وانعدام الشفافية في ممارسات الدولة، وبالأخص ما يتعلق منه بسياستها الاقتصادية والاجتماعية، وأخيراً سيادة العلاقات غير الصحيحة بين السلطة والمال في غالبية الدول العربية. وهو خلل يظهر في إفساد رأس المال الطفيلي لأجهزة الدولة ومؤسساتها، وكذلك في استغلال المواقع الإدارية والسياسية للحصول على مكاسب شخصية أو عائلية. إنَّ الآثار السلبية المترتبة على انتشار هذه الظاهرة في الدولة العربية الحديثة كثيرة، لعل أهمها هو إفشال التراكم التنموي الحقيقي والفعال. وهو أمر جلي في توقف أو هبوط المشاريع التنموية، أو فشلها في تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها. وليس اعتباطاً أن تشير الكثير من الدراسات العلمية والسياسية والسوسيولوجية، إلى أنَّ فشل مشاريع التنمية المتجانسة والفعالة، هو أحد الأسباب الجوهرية في صنع بيئة ملائمة لتنامي ظواهر التطرف والعنف والجريمة. بل تتوصل بعض الدراسات أيضاً إلى أنَّ استشراء الفساد الإداري والسياسي ما هو إلا الوجه الآخر لهذا الفشل. أما في مجال أزمة الدولة والنظام السياسي، فإنَّ استشراء هذه الظواهر يجعل من المستحيل بناء أسس للديمقراطية الاجتماعية، أو حتى مجرد نهج ديمقراطي عادي. وذلك لأنَّ فكرة ومثال الديمقراطية يفترضان التحقق الفعلي لمفاهيم المسؤولية والرقابة والمحاسبة والشفافية، أي العناصر المضادة للفساد التي يشكل غيابها مرتعا له. سابعاً: ضعف استقلالية الدولة. تعدُّ التبعية في العالم العربي الوجه "الخارجي" لضعف استقلاله الذاتي. وهو واقع له مظاهره وأبعاده وأسبابه. تتجسد مظاهره بأشكال متعددة سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية ومالية وثقافية وتكنولوجية. أما أسبابه فلا تقتصر على الضغوط والعوامل الخارجية فحسب، بل وتشترك معها جملة أخرى من العوامل الداخلية. ومن بين أهم هذه العوامل تجدر الإشارة إلى كلٍّ من ارتباط مصالح بعض القوى السياسية والاقتصادية المحلية باستمرار علاقة التبعية كما هي للخارج، وضعف النظام الإقليمي العربي، وأزمة شرعية النظم السياسية، وتعدد مصادر النزاعات العربية – العربية، إضافةً إلى ضعف جهود التكامل والتعاون بين الدول العربية، وبالأخص في المجالين الاقتصادي والعسكري. ومن حصيلة فعل هذه العوامل تتشكل أرضية ونفسية الخضوع للقوى الخارجية والانهماك "السياسي" في تمتين روابط التبعية لها. وبالرغم من اختلاف الدول العربية في أشكال ودرجات تبعيتها للخارج، إلا أنّها تشترك جميعها في محاربة، أو إضعاف الحرية السياسية والاجتماعية الداخلية. وهو واقع يشير إلى الترابط العضوي بين فقدان الحرية السياسية، والخضوع للقوى الأجنبية. الأمر الذي جعل بعض الباحثين يقرون، بأنَّ غالبية النخب العربية الحاكمة تعمل على تكريس واستمرار علاقة التبعية للخارج، حتى ولو اضطرت أحياناً إلى استخدام القوة لمواجهة الحركات والتيارات المحلية الرافضة لهذا النمط من العلاقات مع الخارج. بل إنّها تعمل في هذا الاتجاه للدرجة التي تغفل فيها أحياناً حتى التداعيات الناجمة عنها. من كلّ ما سبق، يمكن التوصل إلى ما يمكن دعوته بالوحدة المركبة لعناصر الأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة. وإنَّ تضافر مختلف مظاهر الأزمة البنيوية المشار إليها أعلاه، هو الذي يضعفها بالضرورة على مستوى الداخل والخارج. بمعنى سلب إرادتها السياسية وقرارها الوطني، مع ما يترتب عليه من تدخل في شؤونها الداخلية على كافة الأصعدة والمستويات. وهي حالة بلغت ذروتها في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، عندما أخذت الدولة العربية الحديثة ونظامها السياسي يتعرضان إلى ضغوط مزدوجة داخلية وخارجية. وهو أمر يشير إلى اقتراب نهاية مرحلة في بنية الدولة العربية الحديثة وظهور أخرى، لعل فكرة "الإصلاح" المفروض عليها من الخارج هو مجرد أحد ملامحها الأولية. إذ لم تعد القضية هنا مجرد قضية سياسية جزئية، بل عالمية أيضاً من خلال جعل "الإصلاح" أسلوباً لمحاربة التطرف والغلو الذي تحول العالم العربي "بسبب الأزمة البنيوية الشاملة للدولة والنظام السياسي فيه" إلى أحد مصادر "الإرهاب العالمي". مما سبق يمكن القول بأنَّ الأزمة البنيوية الشاملة التي لازمت النظام السياسي في الدول العربية الحديثة قد بلغت ذروتها في الأزمة البنيوية الشاملة. تحولت إلى أحد المصادر المؤثرة في استثارة العنف الداخلي والخارجي. بعبارة أخرى، إنّ "تصدير العنف" للخارج، الذي أخذ يتجسد بمختلف مظاهر الإرهاب ولا عقلانية الحركات الأصولية المتطرفة، ليس إلا الوجه الأخر لمظاهر هذه الأزمة. وهو الأمر الذي جعل من العالم العربي كياناً يقف من جديد في "قفص الاتهام"، ضمن معادلة جديدة في العلاقات الدولية. مما يجعل من دراسة وتحليل مقدمات وطبيعة الإشكاليات التي يواجهها في ظل العلاقات الدولية الجديدة قضية علمية وعملية غاية في الأهمية.
أشواق عباس
الأربعاء 2015-05-13  |  12:41:05   
Back Send to Friend Print Add Comment
Share |

هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟ 
: الاسم
: الدولة
: عنوان التعليق
: نص التعليق

: أدخل الرمز
   
Copyright © سيريانديز سياسة - All rights reserved
Powered by Ten-neT.biz ©