ما تفرّقه السياسة يجمعه الاقتصاد. هكذا يمكن اختصار نتائج الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني لفرنسا، خلال اليومَين الماضيين، والتي كرّس من خلالها عودة الجمهورية الإسلامية بقوة إلى الساحة الدولية، بعد محاولات التغييب التي فرضتها سياسة العزل الدولية، وأنهتها التسوية النووية.
صفقات بمليارات اليوروات، هي حصيلة الزيارة الباريسية للرئيس الإيراني، شملت توقيع بروتوكول لشراء 118 طائرة من طراز «إيرباص»، وآخر أذن لعودة شركة «بيجو ـ سيتروان» إلى الأسواق الإيرانية، واتفاقية لبيع «توتال» ما بين 150 و200 ألف برميل يوميا من النفط الإيراني.
ولكن المليارات، المغلفة بعبارات ديبلوماسية تشي بأن «صفحة جديدة» قد فتحت في العلاقات المتوترة تاريخياً بين فرنسا وإيران، أخفت وراءها حذراً متبادلاً، في ظل تعارض الرؤى بين الجانبَين إزاء الملفات الإقليمية، لا سيما الملف السوري، وإصرار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على تذكير ضيفه بـ«الحرص» على حقوق الإنسان داخل إيران.
ولمناسبة الزيارة الأولى لرئيس إيراني للعاصمة الفرنسية، منذ زيارة محمد خاتمي في العام 1999، حظي روحاني بتشريفات إضافية، من بينها مراسم عسكرية. ومع ذلك، فإن الزيارة الباريسية لم تحظَ بالبريق الذي كان لمحطته الإيطالية قبل يومَين، نظرا إلى أن فرنسا اتخذت موقفا متشددا في المفاوضات النووية مع إيران، وكانت صريحة في التنديد بالدعم الإيراني لدمشق.
ولعل بعض التفاصيل المتعلقة بالبروتوكول الديبلوماسي كانت معبّرة في رصد الفرق بين الزيارتَين الفرنسية والإيطالية، ففي حين راعى الجانب الإيطالي أن روحاني يمثل إحدى كبريات الدول الإسلامية في العالم، فبادر إلى تغطية تماثيل عارية بصناديق بيضاء في مجلس بلدية مدينة روما ومجمع المتاحف، فإن الجانب الفرنسي، وبحسب ما ذكرت صحيفة «إندبندنت»، رفض الوفاء بتعهداته بتقديم لحم حلال وتجنب الخمر على مأدبة العشاء الرسمية، ما أدى إلى إلغاء هذه الفعالية البروتوكولية.
وفي الملفات الإقليمية، كان الصراع السوري الملف الأبرز الذي ناقشه هولاند وروحاني، اللذين توافقا على ضرورة إنهاء النزاع الدامي في سوريا، برغم اختلاف المقاربات، في حين لم يغب لبنان عن طاولة المفاوضات بين الرئيسَين الفرنسي والإيراني، اللذين اتفقا على ضرورة إنهاء حالة الفراغ الرئاسي.
وفي مؤتمر صحافي مشترك مع روحاني، قال هولاند: «هذا فصل جديد في علاقاتنا يفتح اليوم».
وكان الرئيس الفرنسي يلاقي بذلك عبارات مماثلة، قالها ضيفه الإيراني خلال لقاء سياسي ـ اقتصادي حضره رئيس الوزراء مانويل فالس صباحاً، حيث أكد روحاني «أننا مستعدون لطي الصفحة من أجل بدء علاقة جديدة بين بلدَينا»، داعيا إلى اغتنام «الجو الإيجابي» في أعقاب رفع العقوبات الدولية عن الجمهورية الإسلامية.
ودعا هولاند إلى العمل على بدء عهد جديد في العلاقة بين إيران وفرنسا، لكنه شدد، في المقابل، على أن ذلك لا يعني عدم وجود خلافات بين البلدَين، مشيراً إلى أن حل تلك الخلافات مسؤولية مشتركة.
وكانت مسألة حقوق الإنسان حاضرة خلال اللقاءات، خصوصا أن العاصمة باريس شهدت تظاهرات محدودة في هذا الشأن.
وقال هولاند إنه «ذكّر» نظيره الإيراني بـ «تمسك فرنسا بحقوق الإنسان»، موضحاً «لقد تحدثنا في كل شيء، لأن هذه هي القاعدة دائما في السلوك الفرنسي»، وهو ما رد عليه روحاني قائلاً: «يجب ألا يكتفي الغربيون بالقول إنهم منسجمون تماما مع حقوق الإنسان وإن دولا أخرى ليست كذلك»، معرباً عن اعتقاده بأنه «يجب على جميع البلدان أن تعمل على احترام حقوق الإنسان لأنه في كل بلد قد تكون هناك صعوبات ونقص» في هذا المجال.
وقال روحاني إن إيران ستفي بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي الذي وقعته مع القوى الكبرى، لكنه طالب الطرف الآخر بالوفاء أيضا بتعهداته.
وتحدث روحاني عن «المشاكل الأمنية في منطقة» الشرق الأوسط، قائلاً: «علينا تكثيف الجهود في هذه المجالات عبر تبادل معلوماتنا على مستوى الاستخبارات».
وشدد الرئيس الإيراني على ضرورة أن تتصدى فرنسا وإيران بشكل مشترك لـ «التعصب والإرهاب والتطرف»، خصوصا عبر تبادل المعلومات الاستخباراتية.
وأفاد مصدر ديبلوماسي بأن زيارة روحاني لباريس «تفتتح مرحلة للمباحثات لمواكبة إيران في عودتها إلى الساحة الدولية بحيث تؤدي دورا إيجابيا خصوصا في ما يتعلق بالملف السوري».
وقال هولاند في هذا الصدد إنه «من المُلحّ اتخاذ إجراءات إنسانية والتفاوض على انتقال سياسي. إنه أمر ممكن»، مشيراً إلى أن هذا الانتقال مرتبط «بمفاوضات سياسية تأخرت»، في إشارة إلى مؤتمر جنيف.
وأضاف: «علينا أن نسهل هذه المباحثات والسعي بكل السبل إلى أن تشمل كل الدول التي يمكن أن تكون مفيدة وكل المجموعات ما إن تعلن رفضها الإرهاب».
من جهته، قال روحاني، حين سئل إن كان مستعدا لحل وسط بشأن مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، إن «الأمر بيد الشعب السوري ليتخذ قرارات بشأن بلده».
وأضاف: «المشكلة في سوريا اليوم ليست في الأشخاص بل في الإرهاب والدولة الإسلامية والناس الذين يشترون منها النفط وهم الأشخاص أنفسهم الذين يعطونها الأسلحة ويدعمونها سياسيا».
أما الملف الديبلوماسي الآخر الذي كان مطروحاً على طاولة المباحثات بين روحاني وهولاند، فكان الأزمة الحادة بين طهران والرياض.
ودعا هولاند إلى «خفض حدة التوتر» بين إيران والسعودية اللتين قطعتا العلاقات الديبلوماسية بينهما مطلع كانون الثاني الحالي، إثر إعدام السلطات السعودية رجل دين المعارض نمر النمر وتعرض سفارتها في طهران لهجوم على الأثر.
من جهته، قال روحاني إنه يأمل في أن يُحل التصعيد بين إيران والسعودية عبر الطرق الديبلوماسية.
ودعا هولاند أيضاً إيران إلى أداء دورها كاملا للمساعدة في «المصالحة الوطنية» في العراق وتفادي أي انفجار للوضع في لبنان المهدد مباشرة بتداعيات الأزمة السورية.
وقال: «في العراق، علينا أن نسهل مصالحة وطنية تشمل جميع المجموعات، وإيران تتحمل بالضرورة جزءا من هذه المسؤولية. وفي لبنان الهدوء هش، والوضع متوتر، وعلينا أن نبذل ما في وسعنا لضمان وحدة لبنان والسهر على عدم استمرار الفراغ المؤسساتي»، في إشارة إلى الملف الرئاسي.
من جهته، قال روحاني إن «لبنان صديق لفرنسا وإيران ونتمنى أن يخرج من أزمته وسنتعاون مع فرنسا لمصلحة لبنان».
وفي الجانب الاقتصادي من الزيارة، وقعت إيران بروتوكول اتفاق للحصول على 118 طائرة من طراز «إيرباص» للرحلات المتوسطة والبعيدة بقيمة تناهز 25 مليار دولار.
وقالت «إيرباص» إن الطلبية تشمل 73 طائرة عريضة الجسم، و45 طائرة نحيفة الجسم، وهي تتألف من 12 طائرة من طراز «إيه 380» و16 طائرة من طراز «إيه 350-1000»، و45 طائرة من طراز «إيه 320»، و45 طائرة من طراز «إيه 330».
ويبعث طلب شراء الطائرة «إيه 380»، وهي أكبر طائرة ركاب في العالم، برسالة تجارية قوية إلى المنافسين الاقتصاديين لإيران في الخليج، ويعطي دفعة لـ «إيرباص» التي تجد صعوبة في بيع هذه النسخة من طائراتها.
وأعلنت شركة «توتال» النفطية العملاقة عن توقيع عقد لشراء ما بين 150 و200 ألف برميل يومياً من النفط الخام في طهران.
وتملك إيران رابع احتياطي نفطي في العالم، وتصدر أكثر من مليون برميل بقليل من أصل 2.8 مليون برميل تنتجها يوميا.
كما وقَّعت المجموعة الفرنسية لتصنيع السيارات «بي اس آ بيجو - ستروين» عقدا بقيمة 400 مليون يورو على مدى خمس سنوات مع طهران. وبذلك تصبح «بيجو - ستروين» أول مُصَنِّع غربي للسيارات يعلن عودته إلى إيران منذ بدء رفع العقوبات الدولية.
وينص العقد على تأسيس شركة مشتركة بين «بيجو» و «خودرو» الإيرانية، ستقوم بتصنيع سيارات من طراز «بيجو 208 و2008 و301»، اعتبارا من الفصل الثاني من العام 2017. وتأمل المجموعة الفرنسية في تصنيع 200 ألف سيارة سنويا.
وستقوم هذه الشركة اعتبارا من العام الحالي بالإشراف على الإنتاج الحالي في مصنع «خودرو» في غرب طهران للسيارت من الجيل القديم من طراز «بيجو 405 و206».
ومع أن المجموعة الفرنسية لا تشمل هذه الطرازات في إحصاءاتها العالمية، لأن تصنيعها يتم باستخدام قطع إيرانية وصينية، إلا أنها تشكل ثلث سوق السيارات الجديدة في إيران.
ووقع عملاقا البناء «بويغ» و «فينشي»، بالإضافة إلى شركة «باريس أ دي بي» لإدارة المطارات، بروتوكولات اتفاقات لتطوير ثلاثة مطارات في إيران.
من جانبها، وقَّعت الجمعية الوطنية الفرنسية للسكك الحديد وشركة السكك الحديد الإيرانية بروتوكولا للتعاون في أربعة مجالات تشمل تطوير المحطات والخطوط عالية السرعة.
من جهته، حث وزير التجارة والصناعة الإيراني محمد رضا نعمت زاده المصارف الفرنسية على التغلب على مخاوفها من العمل مع الجمهورية الإسلامية، وذلك في مسعى لجذب استثمارات أجنبية تحتاجها بلاده بشدة.
وبرغم الصفقات الكبرى التي شهدتها زيارة روحاني لباريس، إلا أن جدول الأعمال الرسمي للوفد الإيراني لم يتضمن اجتماعات مع مصارف فرنسية كبرى مثل «بي.إن.بي باريبا» و «سوسيتيه جنرال».
وتبدي المصارف الفرنسية ترددا في الدخول في الصفقات مع إيران بعدما غرمت الولايات المتحدة مصرف «بن بي.ان.بي باريبا» تسعة مليارات دولار في العام 2014 بسبب انتهاكات للعقوبات الدولية.
وقال نعمت زاده إن المصارف الأجنبية يمكن أن تراعي فقط ثلاثة شروط لتفادي انتهاك العقوبات الأميركية، وهي عدم العمل من خلال فرع أميركي، وتفادي العمل مع الأشخاص والكيانات المدرجة في قائمة العقوبات، وعدم تسوية المعاملات عبر الولايات المتحدة.
ومضى قائلا: «هذه الشروط الثلاثة واضحة جدا. رجاءً خذوا الأمر بجدية. من جانبنا بدأت الأمور تتحرك .. إذا لم تبدأ المصارف، فنحن نضيع وقتنا لا أكثر».
وقال مصرفيون فرنسيون إن غرامة «بي.إن.بي باريبا» ما زالت عالقة في الأذهان وإن إطار العقوبات الحالي لا يشجع على العمل. وقال سايروس مباشر، الاستشاري المقيم في إيران، إن «المصارف الكبيرة تلقت ضربات عنيفة، لذا لن تعود ما لم ترَ كيف ستسير الأمور لبعض الوقت»، لكنه أشار إلى أن مصارف صغيرة مثل «ناتكسيس» قد تكون أكثر استعدادا للعمل مع طهران.
ويأمل رجال الأعمال أن تكون شركة «كوفاس» الفرنسية للتأمين على ائتمانات التصدير قادرة على المساعدة في تحريك الأمور. ووقعت «كوفاس» اتفاقا مع إيران، خلال زيارة روحاني، في خطوة وصفها نعمت زاده بـ «المهمّة»، ولكن لم تتكشف تفاصيل على الفور.
في غضون ذلك قال وزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون إن المصرفَين المركزيين في فرنسا وإيران أعادا العلاقات رسميا للسماح للمصارف الإيرانية لمباشرة الأعمال مع فرنسا.
(«السفير»، أ ف ب، رويترز، أب)