السبت 2015-05-30 16:50:55 رأي
إنشاء سياسي

منذ الشهر الأول للجرح السوريّ الذي اتسع  فيما بعد، فامتدّ من أقصى الجغرافية السورية إلى أقصاها، سارعت الفضائيات العربية، على اختلاف مواقفها، إلى استضافة من وصفتهم بالمحللين السياسيين، والباحثين الاستراتيجيين، والناشطين الإعلاميين، حتى بدا أنّ ثمّة "كنوزاً" فكرية عربية كانت مخبوءة، أو منسية، أو يعلوها الغبار، ثمّ حصحص الحقّ، فتكشّف عن "جواهر" تكاد تكون استثناء ممّا تطوي الأرض تحت جلدها المتشقق من وطأة الزيف، بل التعالم، والتفاصح، والادّعاء، من بعض، وربّما كثير، ممّن توهموا، أو تمّ إيهامهم، بأنّ "إياس" الذي كانت العرب تضرب به المثل في الذكاء، وبأنّ "الأحنف" الذي كانت تضرب به المثل في الحلم، ليسا سوى شجيرتين صغيرتين، وكثيراً، أمام أشجار معرفته الباسقة، والباذخة الثمر!

محللون، وباحثون، وناشطون، و... كلٌّ منهم فريدة عصره ويتيمة دهره في التحليل، والبحث، والمتابعة، وما على المشاهد سوى أن يشرع أذنيه على آخرهما، فيسمع، ويسمع، حتى يضجر الزمان والمكان من فتنة الكلام، وسحره، وعمقه، وتفسيره للمفسَّر، وتعريفه للمعرَّف!

من البدهيّ أن تسارع الفضائيات إلى استضافة محللين، وباحثين، وناشطين، وسواهم، في نشراتها الإخبارية أو برامجها السياسية، أو بعد نقل مباشر لحدث مميز، ولكن ليس بدهيّاً أن تستقبل كلّ من وسوس شيطان الزيف له بأنّه كذلك، أو كلّ مَن زعمَ أنّه كذلك، ذلك أن قيمة أيّ وسيلة إعلامية، مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، وأهميتها بآن، تكمنان في اختياراتها الحصيفة في هذا المجال، وعلى نحو يؤكّد احترامها المتلقّي الذي تستهدفه أو تتوجّه إليه.

في السنوات الخمس التي مضت نبتَ المحللون، والباحثون، والناشطون، كالفطر السام في الفضائيات على نحو خاصّ، وإلى الحدّ الذي بدا معه أنّ الأرض تشققت عن محللين وباحثين وناشطين بحجم الأرض نفسها، فاختلط المحللون الجديرون بوصفهم كذلك بالمحللين الزيف، والباحثون الذين يصدرون في أدائهم عن زاد معرفيّ جدير بالتقدير بأشباه الباحثين، والناشطين المتابعين للأحداث بحقّ بالأدعياء والمهمومين بتسوّل الشهرة مهما يكن من أمر فقرهم المعرفيّ في هذا المجال أو ذاك ممّا يدّعون معرفته، أو متابعته، أو الإحاطة به.

وبسبب من ذلك تكاثر الإنشاء الذي لا قيمة له، ولا طائل منه، في الأغلب الأعم من وسائل الاتصال بمختلف أشكالها، وفيما ينطوي تحت عباءة التحليل السياسيّ. الإنشاء الذي لا يتجاوز كونه موضوعات في التعبير، بل الذي لا يتجاوز كونه كلاماً متبوعاً بكلام، كلاماً يعني أيّ شيء ولا يعني الشيء الذي يجب أن يعنيه.

لأحد أبرز أعلام الفكر والأدب في القرن التاسع للهجرة، الخامس عشر للميلاد، كتاب عنوانه "صبح الأعشى في كتابة الإنشا"، كان غرض القلقشنديّ من تأليفه تزويد كتّاب الدواوين السلطانية بما يلزم من قواعد في صياغة المخاطبات، والمراسلات، وقدّمَ في مقالاته العشر زاداً معرفياً رأى أنه ضرورة لكلّ كاتب ديوان، ولعلّ من أبرز تلك المقالات المقالة الأولى التي تحدّث فيها عن مجموع المعارف التي يحتاجها الكاتب في ديوان الإنشاء للقيام بما اصطلح على تسميته بالمهمة الخطيرة على أكمل وجه، وهي معارف لغوية وأدبية وتاريخية وجغرافية.

المهمة الخطيرة! إذا كانت المخاطبات والمراسلات كذلك، فأيّ تعبير يليق بالتحليل السياسيّ، والبحث الاستراتيجي، والنشاط الإعلاميّ؟! أيّ تعبير؟!

 

 

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع سيريانديز سياسة © 2024