الأحد 2016-01-10 08:49:32 تحليل سياسي
الانتزاع بالتراضي
الانتزاع بالتراضي

طارق عبدالله عجيب
لا تهتم ، ’’ الطريق ممهدة لإعمار أوروبا ودمار الشرق الأوسط ’’ ، هذا جوابُ أحد الشبان العرب الذين يستقبلون اللاجئين السوريين على رصيف ميناء اثينا لمساعدتهم في تأمين تذاكر السفر إلى الحدود المقدونية ، وذلك رداً على سؤال لاجئ أراد أن يعرف ما الخطوة التالية بعد أن يجتاز الحدود اليونانية .
أعطى هذا الجواب بعض الطمأنينة لصاحب السؤال حول التسهيلات التي سيجدها على الطريق ، لكنه بقي حاضراً في ذهنه طوال رحلته ، ولا زال يرن في اذنه صوتُ ’’ الصفقة ’’ التي رافقت الجواب حين فرد الشاب كفه اليسرى للأعلى  ومرر فوقها كفه اليمنى بسرعة كبيرة مع تصفيقة قوية ، حركة ترسم بشكل بدائي سرعة عبور طريق اللجوء للوصول إلى الغاية التي تبتغيها دول أوروبا ، وإلى الهدف الذي يسعى إليه اللاجئون على مختلف سوياتهم وغاياتهم ،  وخلال عبوره حدود الدول الكثيرة عاش اللاجئ ترجمة حقيقية لما سمع ، رغم أن ظروف الانتقال المكانية كانت سيئة لدرجة مقززة ، إلا أن تسهيلات العبور وألياتها وتنظيمها كانت كافية لإثبات تلك المقولة .
الأزمة في المنطقة لها دوافع وروافع وغايات كثيرة متفقة أو متقاطعة أو متبايتة أو مختلفة ، لذلك اختلطت خيوط لعبة الأمم بين الدول الكبرى في فوضى ممنهجة بخيوط لاعبين كثر تختلف حجومهم ومقدراتهم ودوافعهم وغاياتهم أيضاً ، حتى انحدر المستوى ليصل إلى أن بعضهم لا غاية له إلا الارتزاق والمتاجرة بالدم والأرواح والأوطان وكل ما من شأنه أن يحقق الثراء لأمراء حرب وعصابات يستخدمهم اللاعبون الكبار لتأجيج الصراعات وتمديدها وتخريب كل فرص الخروج منها طالما أن المستفيدون الكبار لم تنتهِ صفقاتهم ومساوماتهم بعد على الحصص والنفوذ والمكاسب ، وتأتي قضية اللاجئين والمهاجرين من دول المنطقة باتجاه أوروبا لتحتل لفترة معينة في الإعلام العالمي والعربي حيزاً ملفتاً للنظر ، وخاصة التركيز على سوريا وأزمتها واللاجئين السوريين الذين يهربون من جحيم الحرب فيها بالألاف ليصل العدد في وقت قصير نسبياً إلى مئات الألاف ، و رغم ما ظهر في الإعلام الغربي من بعض التذمر من اللاجئين وأعدادهم المتزايدة ، وبعض التحركات العنصرية ضد اللاجئين بشكل عام في أوروبا ، ورغم التفجيرات الإرهابية التي حصلت في عدد من المدن اللأوربية ولا زالت تستمر هنا وهناك في الجغرافيا الأوروبية ـ إلا أن سياسة استيعاب اللاجئين ، وتنظيم تواجدهم ، والخطط التي وضعت لإدماجهم في المجتمعات الأوروبية ، وعدم اتخاذ أي إجراءات حقيقية أو جدية لمنع تدفقهم أو الحد من دخولهم ، و عدم اتخاذ أي قررات من شأنها أن تسحب مبررات ومرغبات اللجوء لمن يريد ذلك ، كل ذلك يضع علامات استفهام كبيرة حول قضية اللاجئين وحقيقة السياسات والمواقف الغربية والأوربية منها .
كل ما سبق يجعلنا ننظر إلى ما يجري بعين الباحث عن الفهم الصحيح لهذه السياسات ، والهدف الحقيقي منها ، فإذا راقبنا ما يجري في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام ، وفي دولنا العربية بشكل خاص ، من أزمات وحروب تنتج واقعاً لا يحتمل ، وظروفاً حياتية غاية في السوء وضاغطة باتجاه البحث عن أماكن ودول أمنة تستقبل الهاربين من جحيم الصراعات والحروب المشتعلة في هذه البلدان ، وربطنا بينه وبين التغاضي عما يجري ، أو تقديم الدعم لمفردات الأزمة في الدول المأزومة من قبل الدول الكبرى والغربية وتلك التي تطلب وتستقبل اللاجئين ، ونربط ذلكَ أيضاً مع حاجة العديد من تلك الدول لطاقات بشرية من جميع الشرائح تدعم مقومات مجتمعاتها الإجتماعية والاقتصادية والبشرية والتنموية ، والتي أصبحت بحاجة إلى دعم وترميم نتيجة ما تعانيه تلك الدول من مشاكل تتعلق بنظم وأليات تفكير مجتمعاتها ، ومتطلبات النمو والتطور والاستمرار ، يضاف إلى ذلك عامل مهم وهو استراتيجيات الدول الكبرى الفاعلة في لعبة الأمم والتي تسعى جاهدة لضمان ديمومة وزيادة مواردها ، ونجاح سياساتها الاقتصادية التي توفر مستلزمات واحتياجات مجتمعاتها وشعوبها وحكوماتها في المستقبل القريب والبعيد ،  ولا يجب أن نغفل عن دوافع أخرى تتبناها بعض الدول صاحبة الأفكار والمشاريع الاستعمارية التي تهدف إلى تخريب منطقة الشرق الأوسط وتفكيكها وإضعافها وتشريد وتهجير شعوبها ، وطمس معالم حضاراتها ودولها العريقة ، ليجتمع كل ماسبق ويعطي خلاصة تنتج واقعاً على الأرض يدفع بغالبية أبناء تلك الدول التي ترزح تحت عبء الصراعات السياسية والحروب الأهلية والفتن المذهبية ، والتنافس غير الشريف على منابع وممرات النفط والغاز ، تدفع بهم إلى القبول مرغمين بالانتزاع من أرضهم ووطنهم وجذورهم ، وترك تاريخهم بكل المعاني خلفهم ، والتحرك بإرادتهم صاغرين راضين بهذا الانتزاع ، وذلك خوفاً على حياتهم وحياة عائلاتهم وأبنائهم ، ورغبة في إيجاد مطارح تنعم بالأمن والاستقرار ، وتؤمن لهم ولأبنائهم مستقبلاً أفضل ، وتكون بذلك قد حققت الدول الكبرى أكثر من غاية بذلك الانتزاع ، بما يعود عليها بالنفع والإعمار والتطور ، وبما يعود على دولنا بالدمار والاستنزاف والاستعمار بأشكال جديدة ، وعلى شعوبنا ومجتمعاتنا ومواطنينا بالتشرذم والاختلاف والتشتت والتشرد والإنهاك واقتلاع الجذور والانفصال عن البلد الأم .  

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع سيريانديز سياسة © 2024