الثلاثاء 2016-03-01 03:00:47 تحليل سياسي
نجاح الانتخابات في إيران لا يقلّ أهمية عن الاتفاق النووي

شكلت الانتخابات الإيرانية لأعضاء مجلس الخبراء الـ 88 وأعضاء مجلس الشورى الـ 290 والتي شارك فيها نحو 55 مليوناً إضافة نوعية ومتميزة على طريق تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها امتدت إلى أكثر من ثلاثة عقود حققت للشعب الإيراني استقراراً سياسياً صلباً وجعلته يمتلك زمام قراره المستقل وإرادته الحرة ويمسك بأسباب التقدم والمنعة والإنجازات العلمية الباهرة وجعلت من الدولة الإيرانية قوة إقليمية وعالمية يحسب حسابها بين القوى الكبرى قاطبة.
ما ميز هذه الانتخابات أنها الأولى في إيران بعد الاتفاق النووي مع الغرب وبعد كسر الحصار ورفع العقوبات وهذا في حد ذاته شكّل نجاحاً كبيراً للقيادة الإيرانية وإدارتها لمقاليد الحكم والسياسة داخلياً وخارجياً وأعطى الموسم الانتخابي الجديد نكهة خاصة وطعماً بحجم ملف من أعقد الملفات الدولية استغرق الانشغال به ما يزيد على عشر سنوات أفضى إلى خروج إيران دولة نووية بشرعية دولية كاملة.
في كل مرة كانت تجري فيها الانتخابات في إيران ولو على مستوى أقل من مجلس الخبراء أو مجلس الشورى تبرز محاولات وتعقد مراهنات على إحداث تصدعات وانقسامات وانشقاقات وصولاً إلى زعزعة الاستقرار في الدولة والمجتمع وإضعاف الجبهة الداخلية، وكان الضخ الإعلامي والدعائي المعادي يركّز على أنه «لا فائدة من انتخابات كهذه معروفة نتائجها سلفاً» ومحكومة بما يسمونه «الاستبداد الديني» وذلك بهدف مركزي وهو إبعاد الاهتمام بأي انتخابات وتقليل ما أمكن من نسب المشاركة الشعبية بها وكانت النتائج على صعيد الإقبال والمشاركة تفاجئهم في كل مرة وحتى تتجاوز نسبة المشاركة في أي دولة غربية تفاخر «بعراقتها» في ممارسة الديمقراطية.
لا يعيب الحياة السياسة في إيران وجود تنافس ساخن بين تيارين لهما توجهان داخليان مختلفان هما التيار الإصلاحي والتيار المحافظ، بل يعدّ هذا عامل صحة وعافية وعامل قوة ولكن في كل دورة انتخابية تحاول الأبواق الغربية بث الفتنة بين التيارين بأساليب مختلفة ولا يحصدون إلا الخيبة وهذه المرة حاولوا زرع الخلاف على خلفية الاتفاق النووي وتصوير التيار المحافظ على أنه «ضد» الاتفاق وتخويف المؤيدين لهذا التيار، وهم الأغلبية، إنه «سيعيد إيران في نهاية المطاف إلى أحضان الغرب» نتيجة تدفق الاستثمارات الأجنبية وتغلغل الأنماط المعيشية المخالفة لقيم الثورة داخل المجتمع الإيراني المتعطش للانفتاح على العالم الخارجي غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفنهم.
ومع ذلك يمكن القول: إنه رغم الايجابيات الكثيرة التي حققها انتصار إيران في معركة الملف النووي إلا أن انتخابات ما بعد حقبة العقوبات التي فُرضت بسبب البرنامج النووي، تختلف في تحدياتها عن انتخابات ما قبله ولعل أهم هذه التحديات ما يلي:
- تحدي الحروب الكيدية التي تقودها السعودية ضد إيران لا لسبب سوى نجاحها في الوصول إلى الاتفاق النووي وكسر الحصار ورفع العقوبات وانفتاح الغرب عليها، ويمضي النظام السعودي في التأليب والتحريض على إيران وقلب معادلات الصراع في المنطقة من عربي- إسرائيلي إلى  «عربي- إيراني» ومحاولة عزلها عربياً وإسلامياً لمصلحة الكيان الصهيوني.
- تحدّي الحروب التكفيرية الإرهابية التي تقف وراءها الوهابية السعودية في مختلف أرجاء المنطقة مع تأجيج الفتن الطائفية والمذهبية وقد سعرت أوارها مملكة بني سعود إلى أقصى الحدود بعد التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني.
- تحدّي حروب تخفيض أسعار النفط التي تستمر بها السعودية من خلال إغراق السوق بزيادة الإنتاج وهي حروب موجهة لضرب الاقتصاد الروسي والإيراني وحتى لا تستطيع إيران على وجه الخصوص أن تعوض خسائرها النفطية خلال سنوات الحصار الطويلة.
- تحدي التعاطي مع الغرب والاستفادة من استثماراته من دون الوقوع في حبائل مغرياته لتغيير ما أنجزته الثورة وهو تحدٍّ خطر لفت إليه قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، مؤكداً التمسك بثوابت الثورة ونهجها ومنبهاً إلى أن أطماع الغرب بإيران وثرواتها ربما تتزايد بعد الاتفاق النووي وهذا يوجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة.
- تحدّي النهوض بالوضع الاقتصادي، حيث يختلف المحافظون من جهة، والإصلاحيون والمعتدلون من جهة أخرى، على كيفية إدارته في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي ففي نظر الرئيس حسن روحاني، الاقتصاد هو مفتاح الولوج إلى التغيير، وهو الثورة التي يريد أن يحدثها في تحقيق نمو يطمح إليه الإيرانيون ويعول الرئيس الإيراني، على حماسة «الأمل»، في مقابل تشاؤم لا تزال تعبر عنه بعض فئات المجتمع وفيما يأمل الرئيس روحاني بتحسين الاقتصاد في غضون عام، يجادل المحافظون أنه يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير.
لقد تميزت الانتخابات الحالية بإقبال شديد وارتفعت نسبة المشاركين أكثر من أي انتخابات سابقة وكأن في الأمر رسالة تحدٍّ في وجه خصوم الثورة، بل كأن التحديات المتوقعة في ظل الاتفاق النووي حفّزت الشعب الإيراني على الرد عبر صناديق الاقتراع فتشكلت طوابير طويلة أمام مراكز التصويت وقال قائد الثورة السيد خامنئي وهو يدلي بصوته: من يحب إيران وكبرياءها وعظمتها ومجدها عليه أن ينتخب.. إيران لها أعداء إنهم ينظرون إلينا بطمع «في إشارة إلى القوى الغربية» وأضاف : الإقبال الكبير سيحبط أعداء إيران، وقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف: إن الرسالة الموجهة للمجتمع الدولي من هذه الانتخابات هي أن الإيرانيين يقفون بقوة وراء حكومتهم. وسيستمرون في تأييد السياسات المتبعة التي أدت إلى استكمال ونجاح تنفيذ الاتفاق النووي وهذا سيستمر.
ولعل أبلغ رسالة وجهها هذا الإقبال الواسع على الانتخابات في إيران هي الرسالة الموجهة إلى الضفة المقابلة من الخليج حيث هناك أنظمة يعشش فيها القمع والاستبداد بكل صنوفه وألوانه وهي فوق ذلك لم تعرف أي شكل من أشكال الديمقراطية والحرية في تاريخها، ولكنها لسخرية القدر تتبجح منذ أعوام بدعمها «معارضات» مأجورة لإقامة «أنظمة ديمقراطية» في البلدان الأخرى وطبعاً من خلال استخدام أدوات إرهابية متوحشة، فكيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه!
في مطلق الأحوال إن الهجمة التي تتعرض لها الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد توقيع الاتفاق النووي لا تقل ضراوة عما كان سابقاً، ولكن محاولة التضييق عليها بأوجه أخرى، تفهم طهران لغتها، وترد عليها بصوت عالي النبرة يدعو أولاً الشعب الإيراني للتسابق إلى صناديق الاقتراع بما يعني تصويتاً «ضد أعداء الثورة»، وثانياً تقول لهؤلاء جميعاً تطلبون التغيير؟ ولكن هل تغيرتم أنتم؟
من هنا، لا تبدو الانتخابات الإيرانية تحمل تغييراً جذرياً في السياسة الخارجية إذ تتلخص عناوينها العريضة بما أكدته قيادتها خلال الأشهر الماضية، حين علا الكلام بوضوح عن المسموح به والممنوع في المرحلة المقبلة، إذ لا مانع من استخدام لغة الدبلوماسية الفعّالة هنا أو هناك، ولا مانع من انفتاح حذر ولكن من دون أن يوقف هذا الرد على أي تغلغل للأعداء أو المس بمنجزات الثورة، وحتى الكثير من الرسائل الإيرانية على صعد مختلفة.
أما على صعيد الداخل الإيراني، فمن الطبيعي أن تكتسب انتخابات اليوم أهميتها من كونها الأولى في البلاد بعد توقيع الاتفاق النووي، وهي ستحدد التوجه السياسي في إيران وتوازناته المقبلة، إلا أن عملية الاقتراع التي جرت بكثافة لافتة ستكون أولاً وأخيراً، استفتاءً على سياسة الحكومة الإيرانية وهي ستعزز في كل الأحوال قوة إيران وثباتها على مواقفها المبدئية ودعمها لحلفائها في معاركهم لمواجهة الإرهاب التكفيري والإرهاب الصهيوني اللذين يشكلان وجهين لعملة واحدة.
وخلاصة القول: إن الثورة الإيرانية اختبرت مجدداً نفسها في صناديق الاقتراع فنجحت نجاحاً باهراً في الاختبار بما لا يقل أهمية عن نجاحها في الأمس في المفاوضات الماراثونية للتوقيع على الاتفاق النووي مع أعتى القوى في العالم، وحيوية إيران المتجددة اليوم في الانتخابات، تبقى مشهداً مميزاً، في محيط شديد الاضطراب.. وهي هذه المرة، رغم كل ما يثار حولها، تريد أن تثبت أنها «جزيرة» مستقرة، في بحر هائج ومتلاطم الأمواج.
 

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع سيريانديز سياسة © 2024