0 2016-03-27 10:08:42 منبر الإعلام
أزمة أوروبا... معضلة الإرهاب وصعود اليمين

لم يعد هناك شك في أن أوروبا أصبحت في قلب المعركة، وجزءاً أصيلاً من أزمة الشرق الأوسط، مع تحولها إلى أحد مواطن الإرهاب، العابر للحدود والدول والأديان. وعلى رغم احتمال أن يعيد الاتحاد الأوروبي النظر في سياسته الخارجية والأمنية، فإنه ليس في وارد الذهاب بعيداً في الحرب على الإرهاب.

 

ولا قدرة له على التأثير الحاسم، ولا يملك سياسة واضحة، ولا بدائل صلبة. والأهم أن لا قدرة للأوروبيين على تغيير مسار الأحداث، إلى جانب الشك في قدرتهم على المناورة والمبادرة ولعب دور أكثر استقلالية عن واشنطن في المشهد السياسي الدولي. فضلاً عن صعود واضح للتطرف السياسي في القارة، الذي بات يهدد وحدتها ويفاقم أزمتها.

الاعتداءات الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل، جسدت أسوأ مخاوف الاستخبارات والشرطة الأوروبية، ورغم أنها كانت تنتظرها، فقد عجزت عن منعها، ليثبت فشل استراتيجية الغرب في مواجهة الإرهاب. فالاعتداءات هي نتيجة طبيعية لمجموعة عوامل تظافرت في لحظة واحدة.

أولاً: انهيار حدود الاتحاد الأوروبي أمام موجات اللاجئين الأخيرة، الملغمة بأعداد غير معروفة من الإرهابيين، المحملة بحواضن محتملة لهم. وانهيار الحدود، بسبب العجز عن حمايتها، ليس سوى بعض حصاد سياسات الدول الأوروبية والغربية، التي سببت خللاً خطيراً في التوازن العالمي، فاقم مشكلة الهجرة وساهم في تزايد أعداد اللاجئين. وليبيا أبرز الأمثلة الطرية، حيث أسقط الأطلسي وحلفاؤه نظامها ومزقوا نسيجها الاجتماعي، ففتحوا أخطر وأوسع بوابات العبور غير الشرعي للاجئين والمهاجرين إلى أوروبا. واستغل أردوغان تورط الغرب في ليبيا والعراق وسوريا لفتح بوابة تركيا أمام اللاجئين لابتزاز التحالف الأميركي.

ثانياً: فشل الأمن الوقائي الأوروبي المتكرر، من اعتداء شارلي إيبدو، إلى تجنيد الإرهابيين وتسهيل تدريبهم وتسليحهم وتمويلهم ثم عبورهم إلى سوريا، وليس انتهاء بالهجمات الأخيرة، حيث خططوا وتحركوا في عدة دول، ثم نفذوا، من دون أن تنجح أجهزة الأمن في كشفهم وإحباط خططهم. هذا فضلاً عن أن اللجوء إلى الحلول الأمنية في معالجة مشكلة الهجرة والمهاجرين، كان مصيره الفشل، بل حوَّل المشكلة إلى معضلة، بسبب تصنيف معظم المهاجرين كحواضن محتملة للإرهاب، فوقعت أوروبا في أزمات سياسية وأمنية واجتماعية وأخلاقية، دفعت بالمزيد من مواطنيها للانضمام الى الجماعات الإرهابية.

 

 

الأوروبيون قلقون من دخول العالم مرحلة انفراط عقد المجتمع الدولي

 

ثالثاً: الأوروبيون قلقون من دخول العالم مرحلة انفراط عقد المجتمع الدولي، وبدء مرحلة من التنافس تجعل من الحرب في سوريا، فصلاً جديداً من فصول الصراع الذي يريد البعض جعله مدخلاً إلى نظام عالمي جديد. ويخشى الأوروبيون من أن يفاقم تصاعد المواجهة في المنطقة موجات الهجرة واللجوء إلى قارتهم، وبالتالي زيادة الأعباء والتهديدات الأمنية، وربما تحويل أراضيها إلى ساحة مواجهات مع الإرهاب، وميدان حرب بين «دواعش» أوروبا « المسيحيين»، و«دواعش» الشرق الأوسط «الإسلاميين».

رابعاً: يعتبر الأوروبيون التواجد الروسي في القرم وأوكرانيا وسوريا، التهديد الأخطر على أمن قارتهم، منذ الحرب العالمية الثانية. وتثير أحداث أوكرانيا مخاوفهم من انقسامات طائفية ومذهبية وقومية في القوقاز والبلقان والجمهوريات السوفياتية السابقة، سيمتد تأثيرها إلى غرب أوروبا. فضلاً عن عجزهم عن تحديد ماهية التدخل الروسي في سوريا، هل هو دفاعي؟ أم يحمل أهدافاً توسعية في المنطقة والعالم؟ خلال السنوات الماضية حاولت روسيا الدخول إلى حلف الأطلسي، وعملت أوروبا على ضمها إليها، لكن الولايات المتحدة رفضت، وأحبطت محاولات الطرفين عبر أزمتي أوكرانيا وسوريا. رئيس وزراء فرنسا السابق فرنسوا فيون، يأمل في أن تعقد أوروبا تحالفاً مع روسيا ضد الإرهاب وخصوصاً ضد «داعش»، شبيها بذلك الذي عقد ضد النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. فانهيار حدود الاتحاد الأوروبي، أجبر بعض دوله على رفع الأسيجة والجدران على حدودها، وهو ما يثير مخاوف من تفجير دوله من الداخل.

هجمات بروكسل وقبلها هجمات باريس، لن تصعد المواجهة مع الإرهاب فقط، بل هي من مقدمات تسعير المواجهة بين اليمين الأوروبي المتطرف من جهة، وبين اليسار والليبراليين من جهة أخرى. فأسهم اليمين ترتفع، ومبررات عدائيته وعنصريته تتراكم، والشارع ينزع باضطراد نحوه، باعتباره البديل القادر على المواجهة. واليمينيون الفاشيون والنازيون...الخ، هم «دواعش» أوروبا المتحمسون لهذه المواجهة، ولتبني استراتيجية «إدارة التوحش» في أوروبا، بالإقصاء والاعتداء والعنف والطرد، مستغلين حالة الاستياء والخوف. فللفاشية الأوروبية قواعد شعبية مهمة، وساهمت قدرتها على التكيف مع التحولات التي فرضتها العولمة، في توسيعها، وساعدت ظاهرة الإسلاموفوبيا في تصليبها. ورغم أن اليمين الأوروبي أكثر عنصرية وعدوانية، فهو أكثر وضوحاً وأقل نفاقاً من معظم الاشتراكيين والليبراليين، الذين يستخدمون شعارات وقيماً إنسانية، لتبرير نهب ثروات الشعوب والعبث بمصائرها، وهدم مجتمعاتها أحياناً. وهم اليوم في حالة تماه مع شعارات اليمين وخطابه، إلى درجة تلاشي الفوارق بينهم في النظرة إلى المهاجرين. بل إن دفاع اليسار عن اللاجئين خلال موجة اللجوء الأخيرة، قام في الأساس على أهداف أنانية، منبعها الدفاع عن أنفسهم بالاستعانة بالمهاجرين واللاجئين في مواجهة اليمين، لمنعه من السيطرة على المجتمع والسلطة. إلا أن الهجمات الأخيرة تصب في مصلحة اليمين المتطرف، المعادي للمهاجرين، المطالب بوقف الإجراءات التي تسمح بالتنقل الحر بين دول الاتحاد.

لا شك في قلق الأميركي من قوى الإرهاب، خصوصاً في سوريا والعراق. لكنه لا يشعر، حتى الآن، بتهديد يستدعي استنفاراً وتدخلاً مباشراً، ويكتفي بالعمل على تعميق حالة الفوضى التي يعتقد أنها ستحقق له ولحلفائه مصالح وحضوراً دائمين. وعلى العكس من ذلك، فأولوية الأوروبيين هي التخلص من الإرهاب، ووقف تدفق اللاجئين، ويأتي الحل السياسي في سوريا في أسفل سلم أولوياتهم، ما يجعلهم يميلون إلى رؤية موسكو للحل (ضرب الإرهاب أولاً)، على رغم القلق الذي يثيره الحضور الروسي، الذي يدفعهم لصياغة مقاربة جديدة للأزمة، رغم معاناة معسكرهم من العجز والانقسام إزاء النزاع في سوريا بشكل خاص، وأزمات المنطقة بشكل عام.

هل بإمكان أوروبا صياغة استراتيجية جديدة في مواجهة الإرهاب؟ وهل ذلك ممكن من دون إعادة النظر في استراتيجيتها في سوريا؟ لا شك في أن أوروبا في مأزق، وتريد الخروج منه بأي وسيلة، واتحادها يبدي مرونة في شأن الموقف من الرئيس الأسد والمرحلة الانتقالية. وهم، ربما باتوا يدركون أن وجود الأسد خارج السلطة لن يحمي حدود اتحادهم، وأن التملق لداعمي الجماعات «المعتدلة»، والتشدد الشكلي في مواجهة التكفيريين، لن يمنع تيارات الإرهاب من الضرب مجدداً في أوروبا، بحرفية وقسوة، بل سيمكنها من استغلال التحولات في المنطقة، والفشل الغربي في مناطق التوتر، لتوسيع رقعة تحركها ونفوذها. الغربيون قادرون، مع حلفائهم الإقليميين، على استنبات الإرهاب ورعاية الإرهابيين، لكنهم يعجزون عن السيطرة عليهم عندما يصبحون لاعباً مستقلاً. ويصبح من الصعب الخروج لمواجهتهم جملة. حينها، لا يبقى سوى «استراتيجية» وحيدة لمواجهتهم، هي الاستسلام لتوقيتهم، وانتظار خروجهم لتوجيه ضرباتهم الدموية.

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع سيريانديز سياسة © 2024