الثلاثاء 2016-05-17 02:25:08 خاص سيريانديز
اردوغان ونظامه على صفيح ساخن
اردوغان ونظامه على صفيح ساخن

د. تركي صقر
فتحت إقالة أحمد داود أوغلو من رئاسة حزب «العدالة والتنمية» ولاحقاً من رئاسة الوزراء الباب واسعاً أمام تكهنات عديدة بشأن مستقبل أردوغان ونظامه والنظام السياسي في تركيا ككل،
فقد بات واضحاً أن رئيس النظام التركي يسارع الخطا نحو تغيير قواعد الحكم في تركيا المطبقة منذ خمسينيات القرن الماضي ليكون الحاكم الوحيد الأوحد ويطبق مقولة لويس الرابع عشر بمعنى جديد: «أنا تركيا وتركيا أنا»، وفي سبيل ذلك يرمي بكل من حوله على قارعة الطريق ويضحي بكل الذين يحولون دون هدفه هذا حتى لو كانوا من أقرب المقربين إليه مثلما حدث سابقاً عندما أطاح بالرئيس عبد الله غل ومثلما يحدث اليوم عندما أصر على إقالة رئيس الحكومة الحالي داود أوغلو فيلسوفه ومستشاره القديم ورفيق دربه والمنظّر الاستراتيجي للحزب الحاكم سنوات طويلة وصاحب نظرية «صفر مشاكل» مع الجوار التي حولها أردوغان إلى نيران مشتعلة ومئات المشكلات المتفاقمة مع دول الجوار كلها .
لقد أعلن داود أوغلو استقالته فجأة بعد خلاف عميق وشقاق كبير بينه وبين صديقه أردوغان اللاهث باستماتة وراء الاستئثار بكل السلطات والانفراد بها، كما أعلن أوغلو أنه لن يُرشِّح نفسه مجدداً لرئاسة الحزب خلال المؤتمر الطارئ المُزمع عقده في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، ورحل الرجل عن أعلى كرسي حزبي في تركيا، ويستعد حكماً للرحيل عن أعلى كرسي تنفيذي كرئيس لمجلس الوزراء، فبعد أربعةٍ وثلاثين عاماً من نظامٍ يمنح رئيس الوزراء الصلاحيات الواسعة، يسعى أردوغان إلى إلغائها عبر تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي ليكتمل حلمه السلطاني باستعادة أمجاد أجداده من سلاطين بني عثمان وبناء «الإمبراطورية العثمانية» الجديدة.
وبالفعل كشف رحيل داود أوغلو المفاجئ عمق الأزمة الداخلية التي يعيشها النظام التركي نتيجة العقلية السلجوقية الانكشارية لرئيس هذا النظام أردوغان التي حولت تركيا إلى حاضنة الإرهاب التكفيري الأولى في العالم وزجّت بها في أتون  عداوات وحروب  ليست لها نهاية ولقد عبّر أحد الصحفيين عن هذا التطور اللافت في رأس هرم السلطة التركية بقوله: إنه برحيل أقرب المقربين إلى أردوغان أحمد داود أوغلو تنتهي مسيرة هي أشبه بـ«زواج المسيار» بينه – هو المحافظ الأصوليّ – وبين أردوغان البراغماتي الوصوليّ، الذي زرع العداوات الداخلية والخارجية لنفسه نتيجة الأطوار المتناقضة  التي مر بها عقله السلطوي  والأقنعة التي يُبدِّلها كما يبدِّل ربطات عنقه.
لقد بدأ أردوغان سياسته بالنزعة السلطانية، منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية بعد إبعاده  الرئيس غل التي سَبَق أن تمثَّلت علناً ببهرجة القصر الرئاسي البالغ الفخامة بالجدران المطلية بالذهب والأثاث الذي يعكس مستوى غطرسة ساكن القصر، الذي مارس قبل الانتخابات وبعدها بحق معارضيه وخصومه، كل أشكال الإرهاب الفكري والسياسي والأمني وقمع الحريات وكم الأفواه، وأطلق بحق شعبه أوصافاً واتهامات شنيعة، ووصلت حد التخوين بما لا يليق برئيس دولة، وقال للأتراك ما معناه: إما أنا وإما الفوضى والإرهاب، وقد نفَّذ ما قاله، ما انعكس سلباً عليه في الشارع التركي، الطامح إلى استمرار النمط الديمقراطي البرلماني الضامن للحريات والتطوُّر، والذي يؤهل تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، و داود أوغلو يُعد إلى حد ما من هذا المعسكر المُضاد لأردوغان في  حزب «العدالة والتنمية» رغم اتجاهاته الإسلامية المتطرفة .
يقال : «إن الوحش يستدير إلى أولاده ليأكلهم عندما يحشر وتسد في وجهه المنافذ» ويبدو توحش أردوغان جلياً  بعد فشل مشروعه «الإخواني» ومشاريعه الإرهابية حيث أضحى محشوراً في الزاوية يتخبط ذات اليمين وذات الشمال ووصل في سياساته الرعناء إلى حد الإفلاس على المستويين الداخلي والخارجي، ففي الداخل: لا إسلامه أي أردوغان يُرضي جماعة فتح الله غولن الإسلامية المتشدِّدة، ولا يُرضي الأجيال التركية الطالعة المُطالبة بالحريات، وعلى المستوى الحزبي فهو عدو الحزب الجمهوري الرافض للنظام الرئاسي، وهو خصمٌ عنيد لحزب «الحركة القومية»، وهو عدوٌ شرس في المواجهات الدامية مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
وفي الخارج: فإن أردوغان يتظاهر بأنه مسلمٌ معتدل أمام أوروبا رغبة منه بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو مع مصر «أخواني» متشدِّد يرغب باستحضار إرث حسن البنا الذي قامت حركته على مبدأ «استعادة الخلافة الإسلامية» بعد زوال آخر ولاية إسلامية عثمانية، وهو مع سورية كذلك يسعى لاستعادة أمجاد السلطنة وأحلام التوسُّع، وهو مع إيران منافق يريد منافعها الاقتصادية ولكنه يغمز باستمرار من القناة المذهبية  وهو مع «إسرائيل» قومي تركي عقد عام 2010 ستين اتفاقية معها لحماية تركيا وعاد الآن ليقيم معها أوثق العلاقات الاستراتيجية.
وهنا يطرح السؤال المركزي: ما هو مستقبل النظام الأردوغاني بعد سلسلة الهزات والخضات العنيفة التي تعرض لها ولاسيما بعد ما أطلقوا عليه الزلزال السياسي بخروج القطب الثاني والرجل الأقوى  في النظام داود أوغلو؟ وهنا أيضاً تكثر التكهنات والتوقعات وتتعدد السيناريوهات المحتملة إلا أن أهم ما يلوح في الأفق يتمثل فيما يلي:
- زيادة الغليان السياسي الذي يترافق مع الغليان الأمني في الداخل التركي، مع اقتراب موعد عقد حزب «العدالة والتنمية» مؤتمره الطارئ لاختيار رئيسه بدلاً من أوغلو، والسبب: من المرجَّح أنه سيكون أحد أقرباء أردوغان أو أحد الوزراء المقرَّبين منه وفق ما ذكرت قناة «سي إن إن» تورك أو صهره كبيرات البيرق تاجر «نفط داعش» وهذا سيعجل بسقوط الأردوغانية عبر ثورة شعبية عارمة.
- زيادة الغضب السياسي والتوتر الداخلي من قبل الأحزاب العلمانية واليسارية والاشتراكية وأكثر من 40% من أطياف الشعب التركي المتمسكة بالنظام البرلماني بسبب مضي أردوغان وإصراره على «الأسلمة الإخوانية» وعلى الانتقال إلى النظام الرئاسي وهو ما يعده كثيرون انقلاباً خطراً في الحياة السياسية التركية وتحولاً نحو الديكتاتورية وحكم الرجل الواحد واختصار تركيا بشخص أردوغان وهذا سيهيئ المناخ للإطاحة بأردوغان ونظامه الذي انقلب على العلمانية والأتاتوركية  الراسخة في تركيا منذ عشرات السنين.
- فشل أردوغان المرتقب في حربه الإرهابية المجنونة ضد سورية حيث حمّل هذا الفشل لداود أوغلو وأدى  لإقالته وازدياد الفشل كما هو متوقع  سيعجل في سقوط أردوغان الذي كان يحلم أن «تستعيد» له هذه الحرب أمجاد أجداده من السلاطين واسترداد هيمنة السلطنة ولوعد استخدام إرهاب «داعش»، ولكن يجد نفسه وقد خسر كل شيء.
- زيادة نقمة الغرب عليه باعتباره مفجرّ مشكلة اللاجئين في وجه أوروبا ومحاولته زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي وتفكيكه، ولذلك لن تكون أوروبا حزينة عندما يطاح به إن لم تكن راغبة في ذلك حيث تشعر بأنه وراء نشر الإرهاب فيها ويبتزّها بملف «اللاجئين» سياسياً ومالياً وقد رفضت مؤخراً تنفيذ اتفاقية الهجرة ولم ترفع التأشيرة عن دخول الأتراك إلى أراضيها .
- ارتفاع منسوب التوتر في العلاقات التركية- الأمريكية طوال فترة حكم أردوغان  وتبادل المهاترات بينه وبين أوباما أكثر من مرة على خلفية دعم واشنطن للأكراد وعدم الموافقة على «إقامة منطقة آمنة» حتى وصل الأمر بتهديد أردوغان بإغلاق قاعدة «أنجرليك» في وجه الطائرات الأمريكية، ولذلك ربما يفكر صاحب القرار الأمريكي عاجلاً أم آجلاً  في إعادة سيرة الانقلابات العسكرية التركية للتخلص من «السلطان» الأحمق .
- اشتداد الحنق من جنرالات الجيش التركي على تسلط أردوغان بعد أن همشهم واعتقل بعضهم،  وبعد أن أصبح متسلِّطاً أكثر فأكثر مع تقدمه بالعمر، ويسعى للإمساك بكل مفاصل الدولة ووضعها تحت أمرته، وهو يترأس من حينٍ لآخر اجتماعات مجلسِ الوزراء في قصرِه، كما يحرص أن تكون اللجنةُ التنفيذية لحزب «العدالة والتنمية» زاخرة بحلفائه، وهذه الغطرسة السلطانية سوف تستفز الجيش يوماً بعد يوم، وانتفاضته ليست بعيدة من أجل استعادة«إرث أتاتورك».
إن سعي أردوغان للسلطة وحصرها في شخصه يأخذ تركيا نحو مسار خطر، فهو في الواقع رئيس الحكومة ورئيس الحزب الحاكم إضافة لكونه رئيساً للدولة، وأن شخصنة السلطة وتفريغ المؤسسات السياسية والمدنية سيجعل البلاد هشّة  جداً وقابلة للانفجار والانهيار، وعندما يتمادى أردوغان في تسلطه،  سيكون هناك عدد قليل من المؤسسات التي ستبقي على تركيا موحدة ، فشبح التقسيم يخيم على تركيا أكثر من أي وقت مضى.
وفي المحصِّلة يمكن الجزم أنه لن يكون الكل أو معظمهم في تركيا وخارجها إلا سعيداً وفرحاً برؤية أردوغان يتدحرج من أعلى سلم  الحكم  وقبل أن يكون قادراً على الوصول إلى النظام الرئاسي الذي حلم به  طويلاً، حيث بات هو ونظامه الفاسد والغارق بكل أنواع الإرهاب وصنوف الاستبداد على صفيح ساخن وفوق مرجل شديد الغليان والجميع في الداخل والخارج  ينتظرون سقوطه المدوي الوشيك من السلطة.

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع سيريانديز سياسة © 2024