الثلاثاء 2015-05-12 03:49:29 شباب في السياسة
العلمانية اللقيطة
شكل مفهوم العلمانية في العقد الأخير إشكالية كبرى في الشرق الأوسط , حول معناه ومضمونه وسبل تطبيقه وترسيخه , ولهذا عاش هذا المفهوم كالطفل اللقيط الذي لا يجد من يتبناه من أنظمة "استبدادية" قبل "الربيع العربي" و"ديموقراطية" بعده. ذلك خوفاً من أن يصبح هذا المفهوم مرجعية للدولة وجداراً تصطدم به الأطماع السياسية , وكذلك أيضاً لعدم استيعاب جوهر هذا المصطلح الجديد على المجتمعات والمؤسسات في هذه الرقعة الجغرافية. ومن هنا يجب تبيان الوجه الحقيقي للعلمانية وعدم اختزالها بتفاصيل حياتية لا تعطي صورة واضحة عنها , وبخاصة في ظل ما تتعرض له من إساءة وتشويه اجتماعياً على يد الدينيين واللادينيين على حد سواء وسياسياً على يد بعض الدول الدينية والاستبدادية في بعض دول المنطقة . من غير الممكن اختصار العلمانية بفصل الدين عن الدولة لأن هذا شكلها الخارجي. أما في مضمونها , فهي نظام سياسي يقيم دولة المواطنة ويجعل جميع مفاصلها وأجهزتها ومؤسساتها تقف درجة واحدة من كافة المواطنين بغض النظر عن دينهم وعرقهم وعقيدتهم وانتماءهم , ويطبق القانون فيعطي الحقوق والحريات وينظم الواجبات ويحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع مكونات الشعب الواحد , وبالتالي يعمل على تحقيق التنمية والازدهار ومحاربة الجهل والتخلف بإعطائه القيمة الأكبر للعلم ومؤسساته , بالإضافة إلى أن هذا النظام يوفر الحرية لمواطنيه والمناخ المناسب للمشاركة في الحياة السياسية القائمة على التعددية والتداول السلمي للسلطة بأدوات سياسية عقلانية تبقى في إطارها الدستوري . العلمانية إن قامت في ظاهرها بالفصل بين الدين والدولة , إلا أنها لا تطالب بفصله عن المجتمع تأكيداً على إحدى ركائزها المتبنية للحرية الشخصية , وبالأخص في ممارسة الشعائر الدينية المختلفة طالما ظلت هذه الممارسة في حدودها السلمية بعيداً عن العنف والتطرف والفوضى التي قد تعرض السلم الأهلي للخطر , وهذا مع إيمانها بدور الأديان الإيجابي من الناحية الاجتماعية على الصعيد الأخلاقي , كما أنها من ناحية أخرى تفصل الدولة عن الدين بحيث لا يتمكن رجال السياسة من السيطرة على المؤسسة الدينية تبعاً لمصالحهم الشخصية على أن تبقى العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية مرسومة ضمن الأطر والأسس الدستورية . سياسياً , لا تلتقي العلمانية مع الاستبداد في أي شكل من الأشكال إذ أنها تمنع عقلية السلطة مهما كانت إيديولوجيتها من الهيمنة على الدولة , بحيث يقتصر دور السلطة على إدارة الدولة , وهذا ما لا يفعله الاستبداد برسمه الدولة على شاكلته , وقد أدى ربط بعض الأنظمة الاستبدادية نفسها بالعلمانية لتلميع صورتها إلى تعكير صفو هذا المصطلح الحامي للدولة . أما اجتماعيا , فقد تم إظهارها من بعض اللادينيين المشابهين لداعش فكريا على شكل إقصائي معادي للأديان , ثم تعريفها من أغلب رجال الدين بصورة سخيفة تفتقد للموضوعية على أنها جنساً وخمر وكفراً والحاد , والعلمانية براء من هذه الإساءات , فهي دولة المواطنة , لا الاستبداد , دولة الحرية والأخلاق , لا الانحلال , فمن الممكن أن يكون أكثر الرجال تعبداً وتزهدا علمانيا أذا ما أمن بدولة المواطنة , وليس علمانيا ما لا لم يؤمن بهذه الدولة حتى لو كان متيماً بالإلحاد . وبعد أحداث ما يسمى "بالربيع العربي" لم نرى صعوداً للعلمانية أو دولة المواطنة , بل وجدنا ديموقراطية غوغائية (فوضوية) جاءت بتيارات الإسلام السياسي المتطرفة , بما يفسح المجال أمام عودة الاستبداد بصور مختلفة , وهذا يدل على عجز الحكومات والمجتمعات العربية على إدراك جوهر هذا المفهوم والتأقلم معه , ويرجع ذلك إلى سنوات الاستبداد الديني في المجتمع والإقصاء السياسي المنتهج , مما أثر سلباً على تفكير وثقافة شعوب المنطقة , وإذا ما نظرنا إلى عمق التركيبة الاجتماعية لهذه الشعوب , نجدها أكثر حاجة للعلمانية من غيرها بسبب التنوع الديني والروحي والثقافي والحضاري الذي تمتلكه منذ ألاف السنين حتى يومنا هذا . إن تطبيق العلمانية وترسيخها يحتاج إلى دراسة التجارب الناجحة لعدد من الدول التي قطعت شوطا كبيراً في هذا الخصوص (ماليزيا مثلاً) , كما يتوجب وجود إرادة حقيقية لدى مراكز صنع القرار في هذه الدول بالانتقال إلى دولة المواطنة , ويتم ذلك بالعمل المجد على تعريف مفهوم العلمانية ومضمونه في جميع الأصعدة وبالأخص على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي , ولمنظمات المجتمع المدني أهمية ودور كبير في تمتين دولة المواطنة , بالتوجيه والمراقبة البناءة لمسار الدولة الجامعة , بالإضافة إلى موقع الأعلام الريادي في مجتمعاتنا ودوره في زيادة الوعي والإدراك لمفهوم المواطنة , وكذلك أيضاً عبر المؤسسات التعليمية بالعمل على تبني هذا المفهوم في المناهج الدراسية وبكافة المراحل العمرية التي تسلكها أجيال المستقبل , ولا نستطيع إغفال دور المؤسسات الثقافية بما تحتويه من مراكز ثقافية ومسارح وفنون مختلفة قادرة التأثير بعقلية المجتمع ككل . لكن في الحقيقة هناك صعوبات جمة تمنع قيام دول المواطنة في الشرق الأوسط , تتمثل بعدم الرضا الغربي والصهيوني على إقامة هكذا أشكال من الدول الوطنية الحديثة والقوية , منعاً للاستقرار السياسي. فإذا وجد هذا الاستقرار تعرضت مصالح الكيان الصهيوني والغرب للخطر , فهذه الدولة العلمانية الغربية هي أشد أعداء العلمانية في الشرق الأوسط , لأنها تعلم مكامن قوة هذا المفهوم وخاصة إذا ما طبق في بلاد غنية بالثروات والطاقات البشرية وذات موقع جيوسياسي محوري بين دول العالم , ولهذا يتم تصنيع الإرهاب وتقديمه كهدية لهذه الدول الطامحة للنهضة والعمران , لذلك يجب أن تبقى هذه الدول في حروب داخلية تمزق شعوبها وتشتت قوتها , وفي الوقت نفسه تقول القاعدة أن الشعوب صاحبة الإرادة القوية تستطيع فرض إرادتها رغم أنوف الأعداء وحتى لو وقف الكون بوجهها .
ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع سيريانديز سياسة © 2024